الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 30 / نوفمبر 06:02

قراءة نقدية في قصة "شيخ وأمنية" للأديب الفلسطيني فاروق مواسي / بقلم: ولاء شحادة

ولاء نافذ شحادة
نُشر: 28/02/20 18:20

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

قصة "شيخ وأمنية" قصة قصيرة جدًا، كُتبت في حدود صفحتين فقط، وهي ذات عمق دلالي صُبَّ في قالب شكلي متماسك البناء، وسُردت بلغة رمزية ومختزلة ذات طابع إيحائي، وبعبارات وصف دالة؛ ليكشف فيها القاص عن عالم التجربة القصصية، وعن باطن الشخصية الرئيسة، ومشاعرها النفسية، ويجعلها قادرة على إيصال فكرتها للقراء متماشيةً مع بنية الحدث القصصي على امتداد السرد.
الفكرة التي أراد المؤلف إيصالها للقراء من خلال قصته: أن القدس هي الروح القابعة في كل إنسان حر وشريف على اختلاف وامتداد بيئته الزمانية والمكانية والثقافية والدينية، وأراد أيضًا أن يرسخ في ذهن المتلقي أن الحياة الحقيقية للإنسان والمتمثلة في ثنائياتها المتضادة (الوجود/ العدم)، و(البقاء/ الفناء) لا تتم بصورتها المكتملة إلا بتحقق الحرية والكرامة وحق السيادة فوق أرضه ومقدساتها، ودحر كل محتل ومندس.
وفي أي عمل أدبي، إن آخر ما يكتبه المبدع وأول ما يقرأه المتلقي هو العنوان، إذ يعتبر نصًا موازيًا لمتنه، ويحمل العديد من الدلالات التعبيرية والإشارات الإيحائية التي تتسم أحيانا بشمولية فكرة النص وأحيانا تتسم بجزئيتها، وجاء عنوان هذه القصة مختزلًا ومكثفًا، وعلى علاقة واضحة وصريحة بمضمون القصة، إذ بدأ القاص قصته واصفًا بدقة أبعاد الشيخ المادية والفكرية، وأشار إلى وعيها الثقافي والديني والفلسفي والسياسي، ومع تصاعد السرد أفصح القاص عن أمنية الشيخ التي جاءت في عبارة تتسم بالبناء الرمزي، وتفتح باب التأويل واسعًا أمام المتلقي، ويُلحظ على العنوان أنه جاء ثنائيًا في جملة اسمية معطوفة تدل على المضمون، ويلحظ عليه أيضًا أنه جاء نكرة "شيخ وأمنية" وتنكير الأسماء يجعل القارئ متشوقًا لقراءة النص، ومدققًا فيه للوصول إلى خفاياه وأبعاده الباطنة، ويضعه في دائرة لا منتهية من التأويلات والتفسيرات.
وكما اختزل القاص العنوان اختزل أيضًا شخوصه القصصية وجعلها في شخصيتين رئيستين وهما ( الراوي وهو القاص نفسه، والشيخ)، واختزال هذه الشخصيات كان لتسليط الضوء وتركيزه على الموضوع الرئيس للقصة، وجعلها أكثر واقعية، ومنحها رؤية دلالية تجنب القارئ من الانشغال بشخصيات أخرى قد تشوش النص وتغلق فهمه بدلًا من إضاءته وإيصال فكرته بوضوح، وفي تناوب سردي كان الراوي ينتقل من لغة السرد الذاتي إلى لغة الحوار مع شخصية الشيخ مما يضفي على القصة سمة الإبداع والحيوية والتأثير والإقناع.
وعلى مستوى الحدث، فقد جاء الحدث مكثفًا ومختزلًا، ووصل ذروته عندما وصل الراوي والشيخ إلى مدينة القدس والدخول إلى باحة المسجد الأقصى ومشاهدة تفاصيل المكان، ورؤية جندي "الفلاشا" على باب الحرم مدججًا بعصاه، ووقتها اتخذ القاص من المرجعية المشتركة وهي التناص الديني من القرآن الكريم" إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي.." معادلًا موضوعيًا لتفرغ عليه الشخصية (الشيخ) مشاعرها وأحاسيسها وانفعالاتها، وتتكئ عليه لتفصح عن أمنيتها، فتدحرجت على لسانها جملة فعلية ختم بها القاص قصته، إذ تُنذر بالاستمرارية وتعبر عن حدة موقفية وإصرار وعزيمة وقوة تمسك بهذا الوقت المناسب وهي:" أريد أن أموت في وقت مناسب" وإن هذه النهاية بتلك العبارة تحتم على القارئ أن يشارك في تفكيكها وتركيبها مرة أخرى؛ ليبني عليها نصًا جديدًا مؤولًا، وهذا ما يجعل القارئ مشاركًا في النص لا فقط متلقيًا عاديًا ينتظر قفلة القاص ومكتفيًا برأيه ووجهة نظره لما في ذلك من سلب لفكر القارئ وغياب متعته العقلية والروحية.
إن توظيف القاص لتقنية الوصف تسهم في تطوير البناء الدرامي للقصة، وتنم عن ذكائه ووعيه، وقدرته في جذب انتباه القارئ ودفعه لمواصلة قراءة النص والتفكير في أبعاده، واستخدم القاص هذه التقنية في وصف ملامح الشيخ بداية القصة " شيخ وخط الشيب رأسه، واشتعل حافظة وذكريات، هضيم تكاد تجاعيد وجهه تقول إنه تجاوز الثمانين، لحية قصيرة يتأنق في شكلها، وكأنها مرسومة على وجهه، يختبئ بعباءته المقصبة ويتكئ على وسادته كلما وهنت قواه"، ثم بعد ذلك انتقل القاص لوصف موجودات المكان الذي تعيش به الشخصية ووصف تفاصيله الصغيرة، فهو لم يأتِ بهذا الوصف للحشو التزيني وإنما وصف مقصود يخفي وراءه القاص دلالات مهمة لا تنفصل عن المغزى الكلي والعام للقصة " على رفٍّ كانت خزانته تتكدس بعشرات الكتب ....، كتب لونها أصفر وطباعتها رديئة.."، وانتقل بتقنية الوصف إلى المسجد الأقصى ونظر إليه بناءً على بيئته المكانية الماضية والعريقة "قبة... مدافن... تكايا...، خطوط...، كل شيء هنا عريق. ربما صلى هنا صلاح الدين، وربما خطب هناك عمر، وها أنت يا جدي تصلي" وإن هذا الوصف كان يحمل بُعدًا رمزيًا، وربما ليقابل به بين حال الأقصى اليوم وحاله بالأمس.
أما فيما يتعلق بعنصر الزمان فكان يسير وفق زمن القص الحاضر المتسم بالسرعة والتكثيف والإيجاز، إلا أنه أحيانًا كان يلجأ إلى إبطاء السرد عبر تقنية الوصف كما أوضحنا سابقًا، إضافة إلى وقفته الوصفية داخل نفسية الشيخ واستبطان وعيها العميق وما يدور بداخلها من هواجس وأفكار وتساؤلات تنمُّ عن فلسفته الإنسانية والدينية" شيئان لا أستطيع التحديق طويلًا بهما: الشمس والموت. لن أكون نهبًا للفناء، خير الطرق التنعم بما بقي لي من الحياة أن أتجاهل الموت.. سأموت وحدي، وسيبقى العالم مستمرًا من بعدي....."
وعن اللغة التي كتبت بها القصة، فهي لغة رمزية وموجزة مشحونة ومحملة بالدلالات الدينية والسياسية والفكرية والفلسفية والاجتماعية والثقافية، وذات عبارات فصيحة وسهلة ومألوفة وقصيرة وبعيدة عن الإسهاب والإغداق أو المبالغة في الوصف، ونجد أيضا بعض الألفاظ أو العبارات المبينة على التقابل والمفارقة والتكرار؛ لما في ذلك من تحقيق للجماليات الفنية والفكرية، فاتسمت تلك القصة بطابع الوحدة الموضوعية وتكثيف اللحظة الشعورية.

مقالات متعلقة