الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 30 / نوفمبر 00:01

الصورة مشوَّهة // بقلم الكاتبة جميلة شحادة

الكاتبة جميلة شحادة
نُشر: 18/10/20 05:25

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

أمسكتْ الجهاز وراحت تقلِّبه بين كفتيّ يديْها وتتأمّله من الأمام تارة ومن الخلف تارة أخرى. وكلّما تابعت تأمله وتقليبه بين راحتيّ يديْها ازداد تجهمها. ولماّ لم تجد في الجهاز ما ينال إعجابها، سألت ابنتها بنبرة تنمُّ عن استيائها:
" لماذا تبذّرين أموالك على هذه الأجهزة يا لينا"؟
وتابعت تسألها وهي ما زالت تبحث في الجهاز عن ميزةٍ ما، تميّزه عن سابقه:
"ما الفرق بين هذا الجهاز وبين سابقه يا ابنتي"؟
ابتسمت لينا وفتحت فمها لتشرح لوالدتها عن الفرق بين الآيفون 12 الذي اقنته وبين هاتفها القديم من النوع آيفون 7 بلس، لكنها عدَلت عن ذلك واكتفت بأن قالت لها: "الصورة في هذا النوع من الهواتف أوضح يا أمي".
لقد اختارت لينا أن لا تخرِق أُذن والدتها بكثير من الشرح عن أنواع الهواتف الذكية ولا سيما الآيفون منها، ولا أن تصدّع رأسها بالشرح المسهَب عن الفرق بين الآيفون 5 والآيفون 5 أس، أو الفرق بين الآيفون 6 أس والآيفون 8، أو غير ذلك من أنواع الآيفون، أو غيرها من أنواع الهواتف النقّالة عامة. قالت لينا في ذاتها: "لماذا أحشو رأسها بمعلومات عن سعة ذاكرة كل هاتف، أو عن أنظمة تشغيل هذه الأجهزة وكل تلك المصطلحات المتعلقة بأجهزة الهواتف الذكية"؟ "هل سيَعني لها ذلك كثيرا"؟! "أعلم أنه يكفيها أن تُتقن استعمال الهاتف للمحادثات الكلامية واستعمال تطبيق الواتس أب الذي أنزلتُه لها على شاشة هاتفها لترسل كل صباح بطاقة مزركشة بالورود تصبِّح فيها "بنات العيلة"، وما عدا ذلك، هو أمر زائد لا حاجة لها به".
ولكي تثبت لينا كلامها عن جودة الصورة في هاتفها الجديد، قالت لوالدتها:
"سألتقط لكِ الآن صورة بهاتفي الجديد لتكون صورتكِ هي أولّ الصور فيه".
عدّلت والدة لينا جلستها، ابتسمت، واستعدتْ لالتقاط الصورة.
" لا بدّ أن هناك خطأ ما يتعلق بتعليمات تشغيل الكاميرا". تمتمت لينا عندما ظهرت أمها في الصورة مكسوِّة باللون الأزرق. ها هي تشاهد لون رأسها أزرق، وها هي أطرافها زرقاء، وها هو لسانها أزرق، وها هي نظراتها الموجّهة نحوها تشّع باللون الأزرق. لكنّ الغريب أن لينا شاهدت أيضا، أن بقعة يتيمة وردية اللّون، قد أطلّتْ من مركز قفص أمها الصدري حيث ينبض فؤادها، وقد احتلت مساحة منه.
"أخشى أن أتأخر عن موعد صديقتي ريم". قالت لينا لوالدتها، وغادرت المكان مسرعة دون أن تُريها الصورة التي التقطها لها.
أرادت ريم، أن تحتفل بحصول صديقتها ساندي على شهادة الدكتوراة، فدعتها الى وجبة غداء، ودعت اليها أيضا لينا لتعرِّفها على صديقتها ساندي، الدكتورة حديثة العهد.
وصلت لينا بالموعد المحدّد، الثانية من بعد الظهر. ألقت التحية، ومدّت يدها وصافحت صديقتها ريم. رحّبت الأخيرة بها، وأشارت بيدها اليسرى الى ساندي بأسلوب يدل على لباقتها وقالت: " أعرّفكِ يا لينا على صديقتي، الدكتورة ساندي". ثم تابعت كلامها قائلة: "لقد حصلت ساندي على الشهادة بالأمس". تركت لينا يد ريم ومدّت يدها لتصافح ساندي، فسمعت ريم تقول لها وكأنها تذكرت أمرا ما: " بالمناسبة؛ ساندي تحمل شهادة الدكتوراة في حقيبتها. إنها فرصة يا ريم لتلتقطي لي صورة مع ساندي وشهادة الدكتوراة".
"بكل سرور". قالت لينا، وفتحت كاميرا هاتفها الجديد لتلتقط الصورة، في الوقت الذي وقفت فيه ساندي وريم جنبا الى جنب، تتوسطهما شهادة الدكتوراة.
" لا بد أن هناك خطأ ما". غمغمت لينا. "وإلا؛ لماذا تظهر الشهادة في الصورة مكتوبة باسم بنجامين فرانكلين بدلا من اسم ساندي"؟ ها هي صورته تقفز من مخيلتها وتأخذ مكانها وسط شهادة الدكتوراة، ها هي تميّز الرقم 100 رقم هوية فرانكلين وقد استبدل رقم هوية ساندي. استاءت لينا، وبسرعة حوّلت مجرى الحديث الى موضوع آخر، وقد قصدت بذلك أن تنشغل ساندي وريم عن طلب مشاهدة الصورة.
مكثت لينا مع الصديقتين لبعض الوقت، ثم استأذنتهما بالمغادرة قائلة: "عذرا عليّ أن ألبي دعوة المدرسة الثانوية لي بحضور حفل تخرج طلاب الثاني عشر". " أرسلي لنا الصورة بالواتس أب". سمعت ريم تقول لها وهي تبتعد عن المكان.
عندما وصلت لينا حفل التخرج، كان الرئيس يقف على المنصة وقد بدأ بإلقاء كلمته. إنها فترة انتخابات، وحضوره الحفل، فرصة له ليطّعم تهنئته بكثير مما قد يخدم حملته الانتخابية. أسرعت لينا وشغّلت الفيديو في هاتفها الجديد لتوثّق كلمة الرئيس صوتا وصورة هذه المرة، وما أن بدأت، حتى تراءى لناظريْها مشهدا أثار في نفسها الذعر. لقد كانت ترى سلسلة من الحَرابي الصفراء، والخضراء، والبنية تخرج من فم الرئيس مع كلّ جملة ينطق بها، وتزحف لتستقّر على أكتاف أو صدور الحاضرين. والغريب، أن الجميع كان بصفق لهذه الحَرابي غير مستاءين منها، وغير مقدّرين الأذى الذي قد تلحقه بهم.
توقّفت لينا عن التصوير، أخذت نفسا عميقا، وجلست تنتظر توزيع الشهادات على المتخرجين. " لا بدّ أن هذا سيجلب السرور الى قلبي". قالت لينا في سرّها. "ها هو الطالب الأول يعتلي المنصة ليتسلم شهادته". هتفت لينا بصوت خفيض. ابتسمت، شغّلت الفيديو في هاتفها، وراحت توثّق الحدث بالصوت والصورة. لكن للأسف، ابتسامة لينا لم تدُم طويلا، إذ بدأت تشاهد عددا كبيرا من الطلاب وعلى الرغم من وسامتهم وأناقة ثيابهم، راحوا يهبطون من على المنصة بعد أن تسلموا شهاداتهم وهم حيارى، يتلمسون طريقهم على غير هدى وكأن العشى ضرب أبصارهم فجأة فباتوا لا يبصرون. شعرت لينا بدوار يعصف برأسها وكادت تسقط على الأرض مغمىً عليها، لولا أن هاتفها زغرد بموسيقى "ضوء القمر" لبيتهوفين فحال دون ذلك. لبّت لينا زغردة هاتفها، وبعد الألو سمعت والدتها تستعجلها بالعودة. فطِنت لينا أنها وعائلتها مدعوّون الليلة لحضور حفل خطبة ابنة جيرانهم، فتركت المكان وأسرعت لتلحق بوالدتها وشقيقها اللذين سبقاها الى حفل الخطوبة. "سوف أريح أعصابي التي كادت تتلف من أحداث هذا النهار إذا حضرتُ حفل الخطوبة". قالت لينا لنفسها، وقرّرت الذهاب مباشرة الى حفل الخطوبة. كانت أنغام الموسيقا تصدح وتخترق الأجواء، والزينة تكسو المكان بالجمال والبهجة، والأضواء تشّع وتضيء عتم الشارع. دخلت لينا فرأت الابتسامات تعلو وجوه المدعوّين، وباحة البيت مليئة بالراقصات والراقصين، وأمها وأخوها جالسون حيث يجلس أقرباء العروس. انفرجت أسارير لينا عن ابتسامة خفيفة، وأخرجت هاتفها الجديد لتلتقط الصور، وعندما وجهّت كاميرتها نحو العروسيْن لتلتقط لهما صورة، ذُهلت، وخاب أملها هذه المرة أيضا. "مَن هذا الشاب الذي يجلس بجانب العروس؟ غمغمت لينا. "إنه ليس ابن صاحب شبكات تسويق اللحوم المشهورة في البلاد والذي تقدم لخطبة ابنة الجيران كما يعلم سكّان الحي". تابعت لينا تقول لنفسها. "لقد حسدتها فتيات الحي عندما علمن مَن سيكون زوجها المستقبلي". ثم لماذا يمسك بقلب العروس بين يديْه"؟ " وكيف يقف والد العروس خلف العروس مبتسما وهو يحكم قبضته على رقبتها"؟ "ستختنق العروس". همست لينا وتابعت تتساءل. "لماذا لا يمدّ أحد يد العون للعروس ويرفع قبضة والدها عن عنقها"؟ "ألا يراها أحد تختنق غيري"؟ "هل أنا أهذي"؟ "هل انا في كابوس"؟ ظلّت لينا تسأل نفسها حتى خارت قواها وكادت تفقد أعصابها. أسرعت لينا نحو والدتها وأخبرتها أنها ستعود الى البيت، فوجدت أن أمها وشقيقها كانا ينويان العودة هما أيضا بعد أن قاما بالواجب.
كانت لينا تمشي بخطوات بطيئة، وقد غاص نظرها في عتم الليل وراحت تفكّر وتقول في ذاتها: "كثيرا ما كتبتُ في مقالاتي أن مّن يتواجد خارج الصورة، هو فقط مَن يستطيع أن يراها بوضوح وبكل تفاصليها؛ مالي إذن أرى اليوم الصور قاتمة ومشوهّة"؟ "لن اذهب غدا لأصوّر نشاط جمعية "الطعام لكل فم"، لن أذهب لأصوّر حفل تأبين الأديب الراحل والذي لم يحظ مرة واحدة بتكريم في حياته، ولن.....
وبينما كانت لينا غارقة في أفكارها؛ سمعت أمها تقول لها: "لم تريني الصورة يا لينا". فقالت لها لينا وقد أرهقتها أفكارها وأتعستها خيبتها من صور اليوم: "الصورة يا أمي مشوهة، مشوهة".
*****************************
بقلم، جميلة شحادة، كاتبة وقاصّة من الناصرة

مقالات متعلقة