الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 18:02

إنجازات وهميّة وطبول جوفاء/ بقلم: د. سامي ميعاري

د. سامي ميعاري
نُشر: 18/10/20 16:46,  حُتلن: 19:50

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

د. سامي ميعاري في مقاله:

لو كان كل الذين يحملون تلك الألقاب في هذه الأيام بحجم ألقابهم فعلاً وصدقاً لما كنا على ما نحن عليه اليوم

"الطبل الأجوف" مَثَلٌ عربي قديم يُقال عن الذين يبدون وكأنهم كبار في القَدْر ولكنهم في الحقيقة فارغون، تماماً كالطبل الذي يبدو كبيراً ولكنه في داخله فارغ، ولا يفعل شيئاً سوى إصدار الطنين.

بين دكتور أكاديمي، ومحلل سياسي، وخبير اقتصادي، وكتلة هائلة من الألقاب التي تفوق حقيقة المحتوى، والأسماء التي تتجاوز المسميات بسنوات ضوئيّة، تكمن المعضلة التي جعلت الشكل على حساب المضمون.
فلو كان كل الذين يحملون تلك الألقاب في هذه الأيام بحجم ألقابهم فعلاً وصدقاً لما كنا على ما نحن عليه اليوم، ولكانت بلادنا ومجتمعاتنا تشهد نهضة تليق بتلك الأوصاف والرتب، إنهم يذكروننا بالقادة العرب ذوي الرتب والنياشين والبزات العسكرية المرصعة بالأوسمة الذين لم يتركوا وراءهم سوى خيبات الهزيمة.
إنهم يمارسون منافسة غير شريفة: فالمنافسة الشريفة لا تكون بهدف التنافس والسيطرة والهيمنة بل تكون في ميادين البذل والإنجاز والعطاء، أما هؤلاء فلا تجد لهم أثراً إلا في الوجاهة والتكسب والحصول على المصالح الشخصية والذاتية متسترين وراء ألقاب هي أكبر منهم حجماً وفعلاً.

حينما يكون طلب العلم ليس بهدف العلم، والنشاط السياسي والوطني ليس من باب الانتماء والعمل المخلص للشعب والأرض، بل هي كلها تدور في فلك الظهور والبهرجة والنفوذ الطامح للتلميع والوجاهة والمصالح.
ابحث عنهم تجدهم دائماً في كواليس المؤامرات على النخب الثقافية والعلمية والوطنية، يتزلفون من مكان لآخر ويسعون وراء أبخس الأهداف، وهم بالطبع مستعدون للعب أيّ دور مقابل أن يكونوا في صدارة المشهد ولو كان على رأس تظاهرة أو في إدارة مؤسسة ، لا ينطبق عليهم سوى قول الشاعر:
ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ والفارغاتُ رؤوسهنّ شوامخُ
نعم صدق أمير الشعراء أحمد شوقي: فالسنبلة المليئة بالقمح تكون منحنية الرأس بكل تواضع، بينما الفارغة تكون شامخة لأنها تخلو من بذور الحياة والعطاء.

إن الشخص المؤثر الفعّال في مجتمعه لا يشتري لنفسة لقباً لأن الشعب هو الذي سيلقبه حينما يرى أثره، ولو استعرضنا تاريخنا لوجدنا معظم الذين حملوا الألقاب ودخلوا بها بوابة التاريخ بدءاً من الفاروق عمر بن الخطاب وسيف الله المسلول خالد بن الوليد، حتى عصرنا الحديث سنرى أن أفعالهم هي التي لقبتهم وإنجازاتهم هي التي رفعتهم وتواضعهم هو الذي قدّمهم في صدارة التاريخ، وليس سعيهم إلى ذلك ولا شراؤهم لألقاب من جامعات غير معترف بها، ولا تربعهم على قيادة فصيل أو منظمة أو جمعية بالوساطة والعشائرية والمحسوبية.

( أبراهام لنكولن) لم يقدسه الشعب الأمريكي إلا بعد أن حررّ العبيد، وجمال عبد الناصر لم يحظ بهذا التمجيد إلا بعد أن ألغى الألقاب والبيك والباشا في مصر ووزع الأراضي التي استولى عليها الإقطاعيون على عامة الفلاحين، وأنشأ السد العالي وأمّم قناة السويس.
لم يطلق الناس لقب الناصر على صلاح الدين الأيوبي إلا بعد أن حرّر القدس ووحد الأمة التي كانت دويلات وطوائف. توفيق زيّاد لم يحاول شراء لقب بل كان نبضاً لشعبه ووطنه فخلده شعبه دون أن يسعى لذلك خلدته قصائده التي كتبها وهو في السجن يدافع عن شعبه وأرضه.
إن الاتكاء على مثل تلك الألقاب من أُناس غير مؤهلين باعه قصير: لأن الميدان سوف يُكذّبهم في المواقف الحرجة، التي تتطلب أن تكون الأسماء على قدر المسميّات، وبالتالي فهم يضرون بأنفسهم ولن يكون بوسعهم ولا بمقدورهم تجاوز اختبارات ( مزاولة اللقب).

ولعل التجارب أثبتت بأن الألقاب لا يفرضها الشخص على الغير بقدر ما يطلقها الغير على الشخص عندما يجدون لديه الحنكة والدراية اللتين تؤهلانه لتبوُّؤ تلك المكانة: فلا يوجد فيلسوف في التاريخ سمى نفسه فيلسوفاً بل الناس هم الذين منحوه ذلك الوصف، وكذلك الشعراء والحكماء والقادة والزعماء.

ثمة أسئلة تعلق بالذهن دائماً: إذا كان لدينا هذا الكم الهائل من ذوي الألقاب، فلماذا نهضتنا متعثرة، ومجتمعنا في آخر القافلة علماً وأداءً؟
ولماذا نجد هذه الإحصاءات المرعبة عن حجم الجهل والعنف والقبلية البائدة؟
الجواب يتلخص في أن الأسماء لا تعبر عن حقيقة.
فهل سمعتم في الدول والمجتمعات المتطورة علمياً وصناعياً حديثاً عن العائلات؟ وهل المحسوبيات تنسجم مع لقب قائد ومفكر ودكتور ومحلل؟

لقد آن الأوان لمراجعة الذات والواقع ومصارحة النفس بأن الأمر لا يعدو كونه غُثاءً كغثاء السيل، ما هي إلا تلك الفقاعات التي تلتصق بالماء الجاري وهي ليست الماء النافع، ما هي إلا كمن يحتفظ في بيته بآلاف الكتب والمؤلفات يرتبها على الرفوف ليبدو أمام الضيوف وكأنه علّامة عصره، وهو في الواقع لم يقرأ منها كتاباً واحداً، ولم ينتفع منها بفكرة مجدية، ولم يكن الهدف منها تطوير الذات، تلك الكتب المركومة على الرفوف منظراً هي مثال الألقاب المزعومة التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
وفي نهاية هذا المقال لا يسعني إلا أن أتأسف على من يقضي حياته باحثاً عن الذات بينما يتعرض مجتمعه وتتعرض أرضه لمحاولة مسح من الوجود، وفي النهاية : " وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون".

* د. سامي ميعاري- محاضر في جامعه تل ابيب وجامعه اوكسفورد ومدير عام المنتدى الاقتصادي العربي

 المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com     

مقالات متعلقة