الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 18:02

أصابع زينب- قصة قصيرة / عناق مواسي

عناق مواسي
نُشر: 25/11/20 02:34

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

مثل هدوء اللّيل واصوات وريقات الاشّجار التي تلّتف على شُبَّاكي  الصغير وحيدة لا يوجد لي صداقات تؤنس وحدتي، وحده  جواد يمدّ لي يدّ القوّة والاتساع. 

 دأبتُ المحافظة على ابتسامتي رغم هرولتي المتسارعة بين دراستي الجامعية، مرضاي،  أطفالي والجنين الذي في أحشائي يذكرني بوجوده كلما ركلني،   فأقف للحظاتٍ امدّ اصابعي على بطني، أعزف كما بيانو  وأزاول  مهامي. 

يزدحم يومي بالكثير من المرضى ما ان أعود الى بيتي  منهكةٌ ، أتمرمر مع كل مريض يعاني من السكري فانحصر بين ملفاتهم الطبية وينحسر الوجع في ملفاتي الحسية.

 لكني مثل كل أم بالفطرة اتجدد عندما أعانق اطفالي فيتدفق الحب مجدداً إلى خلايا جسمي ويحلي ساعاتي. شهد لي الجميع بكفاءتي المهنية وأدائي بعد ان عملت لسبع سنوات متواصلة في مستشفى الأرز . وكان كل شيء على ما يرام. 

ولم أغفل يوماً عن حب جواد أشتاق إليه في اليوم ألاف المرات وعيناه مصلوبتان أمامي. سافر جواد في بعثة للدراسة من قبل مؤسسة عالمية تعنى بشؤون البيئة وتركني لوحدتي. 

في خلوتي واشتياقي وانشغالي رغبتُ أن أكتب له رسالة شوق مفعمة،   مثلما اعتدنا أن نتكاتب بعنف ورغبة عندما  درست الطب في مدينة توسكانا الايطالية. حيث تتملكني رغبة عارمة أن أردّ عليه تماما مثلما كان يكتب لي حين كان يبدأ رسائله:

الحبيبة زينب..

أحيانا كنت اطلب منه أن يخصني في الحبّ واللّغة ويكتب:

حبيبتي ... حبيبتي زينب..

يضمني تحت جناح الكلمة ويلصقني لجوفه.

وحين كنت أستلم رسائله بلهفة أفتحها وأشمها ألاف المرات أول ما يقع بصري على السطر الأول، 

الحبيبة زينب 

حتى  كتب لي ذات مرة بإقناع.. أنه يحبني باتساع ومدى ولا يقبل لنفسه أن يمتلكني فحبه لي حب متجزئ من كينونتي.. وأن في زينب ألف زينب،  يمكن ان تعشق وأني الحبيبة لأني أستحق الحب ليس من جواد فقط وإنما من كل العالم مذيلاً رسائله بالمحب جواد.

واقتنعت وفهمت من جواد معنى الحب ومعنى أني الحبيبة المطلقة وليس الحبيبة الممتلكة.

ارتبط حبي مع جواد ارتباطًا متماسكًا كما تترابط الحروف وتؤلف الكلمات منسجمة متراصة على السطور حينما بدأ يحبيني بسبب جمالية خطي الذي ابهر كل من رآه لأني ورثت فن الخط العربي من جدي خطيب  فكانت أصابعي تعزف على السطور بمنتهى الجمال والدهشة والانسياب المغرد. وهكذا  بدأت طريق الحب مع جواد عبر أصابعي التي كتبت له أجمل عبارات الحب الشادي. وأردت هذه المرة أن أستعيد الحب إليه بخط يدي.

بدأت أشعر بشيء غريب في مسكتي للقلم باليد اليمنى علمًا انني لا أشكي من أي مرض،   كنت اتحايل على   إرهاقي في الكتابة معللة دائماً "كله إلا أصابعي". 

عزيت ذلك للتعب والإرهاق ربما لأنني أكتب كثيرًا في العيادة  وفي دراستي أُجيد الفهم والدراسة  بالتلخيص بخط يدي. فأنا أفهم شيفرا اصابعي.   وخفت ان يستشعر جواد أحاسيسي التي يتربص لها الوجع من خطي فيقلق علي. مع الأيام زاد ذلك الشعور وهو عدم قدرتي على السيطرة على القلم،

احترت في وجع أصابعي!

لجأتُ لطبيب عظام في القدس، بعد الفحص السريري قال لي من الإجهاد  ولا بد من الراحة،  وناجيت جواد في بعده أن يمدَّ الي اصابعه تعانقني بقوة ويعزف على ظهري ترنيمة الهدوء والقوة.

وبمضضٍ عملت بنصيحته وطلبت من  المسؤول في  العمل السماح بطباعة ملفات المرضى بدلًا من الكتابة يدويًا ووفروا لي الحاسوب والطابعة ،  وفيما يخص دراستي الاكاديمية  وافق المحاضرون تقديم امتحاناتي على الحاسوب مطبوعة.

تدهور عزف أصابعي على السطور،  مما أحزنني  وأردت أن أُجدّد شيئا ما في حياتي فقدمت استقالتي ولحسن حظي تم إرسالي من قبل المطلع لمؤتمر السكري الأوروبي الدولي EASD الذي عقد في السويد على حسابهم كمكافأة لي وفي خلال إسبوعين  انتقلت واولادي   لبلدي  لطالما حلمت بالعودة لأكون بجانب أهلي وأقاربي،  فلم تسعفني رسائل الشوق إلى أهلي التي كنت أكتبها وأستلمها منهم لحنيني إليهم. أحتاجهم أكثر بقربي في بعد جواد وبالذات بعدما تضاءل النشاط في حركة أصابعي.

مشتاقة إلى أبي... طالما  اعترف لي كثيراً "أنت يدي اليمنى" ، فبعد زواجي شعرت ببعدي عنه كنت دائمة البكاء للشوق إليهم، وإلى أمي التي كانت تقولي لي "يسلم إيديك" بعد كل مساعدة قدمتها لها.

مشتاقة  لأكون  مع نفسي في غرفتي وأبكي كما يبكي الصغار  لا لشيء انما لإعادة المجد إلى البكاء العميق.

بدأت أتذكر كل الاشياء الصغيرة المتقنة التي وظفت فيها أصابعي الجميلة من الرسم والخط وحياكة أثواب العرائس والتطريز. لكن هذه المرة أصابعي تأن  فما عادت زينب تكتب بعنفوان وتحلق بلا اجنحة.

مزاجي العصبي فصل له لباساً  على مقاسي  بسبب دوامي الطويل وتأخري لساعات  لألحق بالباص  تاركة خلفي طفلين ليوصلهما أبي  للحضانة في تمام السابعة والنصف صباحاً ، كنت أتمزق لتركهم ولكن هذه هي حياتنا فقط عمل لا وجود للحياة الاجتماعية، لكني رفيقة الضغط والإنجاز ولم أنجرف مرةً إلى الضغوطات كنت أخفي توتري الحقيقي وخوفي بسبب أصابعي ليس إلا.

استلمت بعد حين العمل في عيادة في قرية صغيرة، فرحت كثيرًا وذهبت في اليوم الأول للتعارف ثم توزيع الاطباء في العيادات . 

 في نظام العيادة يستقبل  الطبيب ستين مريض بملفاتهم،  انقبضت أنفاسي وعدت أدراجي  لأبكي بشدة،  أبكي بحرقة كأني فقدت جزءاً من كياني المحاصر. كيف سيتسنى لي أن أكتب كل هذه الملفات وأنا عاجزة عن الكتابة  وبسرعة وبإتقان،

خطر في بالي ان ازور الدكتور  رأفت اخصائي  جراحة أعصاب ، وطلب مني فحص  brain and cervical MRI ،  اريد ان اعرف لماذا أصابع زينب تعطلت؟ ما الذي حدث؟ 

ماذا أصابك يا زينب؟ 

استلمت النتيجة والحمد لله كانت سليمة ، لكن اللغز لا يزال يحيرني ! 

 أتشوق لمعرفة التشخيص فقط ليطمئن قلبي وأطمئن على مستقبل جنيني ،

أجريت عدة مكالمات مع عدة أطباء جدد ولم أجد التشخيص، إلى أن زرت الدكتور بشير  ومن أول لقاء  شخّص حالتي بانها writer’s cramp وأن علاجها بسيط وهو حقن البوتوكس ولا داعي للقلق وزرع  الأمل الكبير داخل عيني الممتلئتان بالدموع ، وطلب مني إجراء فحص تخطيط أعصاب اليد، أجريته وكانت النتيجة سليمه لا شيء، مع رفض الطبيب لإعطائي الحقن لسلامة عضلات يدي، وبدأت الحيرة مجدداً..

عجز أغلب الأطباء عن فهم الحالة وما علي سوى انتظار التدهور وبين الأدوار أشهر من الانتظار والأنين.

دخلت في قفص الإحباط  والبكاء الشديد يتساقط مني، خفت على الجنين في رحمي وأردت ان اجهضه خوفاً واتخذت قراراً  بأنني لن أنجب أطفالا خوف من التدهور المنتظر،

 أخذت منه تقرير لعملي بأن يتم مراعاة ظرفي ووضعي في العيادات التي تعمل بالحاسوب. في تلك الفترة تدهورت يدي سريعًا وفقدت  السيطرة على القلم كليًا حتى اسمي وتوقيعي لا أستطيع أن أكتبه او أوقعه،

ووصل الضعف في حركة أصابعي لانزلاق الملعقة من بينها وكل الأشياء الدقيقة. وبدأت أُدرب نفسي على الاستعاضة بيدي الشمال لأُقاوم الحياة وامسكها بأصابعي مجدداً. واكتفي بخمس بدل عشر.

الحمد لله عدة  شهور مرّت في التدريبات  وأموري مستقرة ولا جديد.

في احدى الأيام رافقتني  الدكتورة لبنى طبيبة عائلة   إلى مستشفى هداسا عين كارم، كان لا بدّ أن اكسر طول ساعتين من الطريق   واخبرتها قصتي علني اجد مع شكواي نجوى تريح قلبي.

 واذ بي آتيها من أعماق ذاكرتي  وأني يوماً تباهيت بخطي وأنا على مقاعد الدراسة ولم أعط زملائي دفاتر تلخيص المواد قبل الامتحان وانتقدت إحدى زميلاتي باستهزاء  أن خطها غير واضح، وبسرعة سائق متهور  تذكرت سائق السيارة  الذي دعي عليّ 

"الله يكسر ايديك" 

والأن خائفة من دعوته.

 أسأل ربي أن لا تكون هذه الأسباب التي شلت أصابع زينب ..

اتمنى ان تعود الحياة بأكملها لأصابعي قبل أن يعود جواد وأول ما يلمسه مني  بشفتيه يدي وأصابعي التي يقبلها بمنتهى الشوق والحبّ ويقبل كل أصابعي كل على حدة وحب.

كان يقول لي أريد أن أقبل كل إصبع من أصابعك يوماً كاملا ولا أنتهي... فقط ذكريني أني وصلت الإصبع العشرين...

أتمنى لو ان تعود يدي بحيويتها

كفكفت الدكتورة لبنى دموعي وقالت لي : لا تحزني ولا تقلقي

ستكتبين لجواد رسالة ، وستعدّين له وجبًة رائعة وستنجبين طفلك سليمًا معافى ..

"مسكتني من يدي التي توجعني" نظرت في عينيها...

وأخذتني الى القدس لنصلي في المسجد الاقصى وطلبت مني  أن أتصدق   مالاً بأصابع زينب الموجوعة. 

(باقة الغربية)

مقالات متعلقة