الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 21:02

المسلم الاسرائيلي

بقلم:رائف زريق

رائف زريق
نُشر: 02/12/20 10:12,  حُتلن: 11:46

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

التقيت د. منصور عباس لأول مرة منذ حوالي السنة والنصف، وذلك في اجتماع مصغّر جدا، وحاولت خلاله أن أفهم ما يجول في خاطر الرجل الذي كان في بداية طريقه السياسي، وكي نتبادل وجهات النظر، ونفحص كيف من الممكن إعادة بناء المشتركة بعد أن تفرّق شملها في أبريل العام المنصرم. انطباعي الأول عنه كان أنّه جدّي، دمث ومحترم للآخرين، دائم الاستعداد لسماع آرائهم والخوض في النقاش معهم باحترام وندية. كذلك لمست لديه قلقا حقيقيّا على مجتمعنا ورغبة حقيقية بتحقيق انجازات عينية لهذا المجتمع. باختصار شعرت أنّه شخص مخلص بما يؤمن به ويسعى لتحقيق انجازات لحركته ولمجتمعه، وليس لبيته أو جيبه. كما أنّي حدست وقتها أنّ الدكتور منصور يخطط للذهاب بعيدا في مضمار السياسة، بمعنى أنّه سيكون مستعدّا للتعامل والتواصل والتفاوض مع الليكود ونتنياهو إذا كان ذلك يخدم -باعتقاده- مشروعه السياسي.
لكنّ الإخلاص والمثابرة في المشاريع السياسية -وإن كانت أمرا في غاية الأهمية، وصفة ضرورية لكلّ سياسيّ يناضل من أجل القضايا العادلة- إلّا أنها لا تكفي. الإخلاص والنوايا الحسنة قد تقود إلى التهلكة أحيانا، وليس بالضرورة إلى الخلاص، وقد يكون هذا أحد أهمّ الفروق بين الأخلاق (على الأقل الأخلاق بصيغة الوازع المطلق أو الانصياع لصوت الضمير ) وبين السياسة النبيلة (وليس مجرد السياسة الفهلوية) إذ أنّ الأولى تكتفي بالنوايا الحسنة لكنّ الثانية لا تكتفي بذلك.

حتّى تكون السياسة نوعا من الطريق للخلاص -أو التقدم، يجب أن تلتقي النية السليمة مع الطريق السليم. وإذا كنت مستعدا أن انطلق من الفرضية التي تقول بأنّ النوايا سليمة (وإن كنت أجهل النوايا لأنها تبقى خفية) فإنّي أعتقد أنّ الطريق غير سليمة.
1. محاولة لفهم المنطق العباسي:
حاولت حينها، وحاولت منذ ذلك الوقت ومن خلال متابعة بعض المقابلات مع النائب عباس أن أفهم ما هي استراتيجيته، أو على الأقل ما هو المنطق الذي يقود عمله، أو حتّى ما هو المنطق الذي من الممكن أن يقود عمله (حتّى وإن لم يصغ هو بنفسه هذا المنطق). وعليه سأحاول أن أستشفّ المبدأ الذي من الممكن أن يبرر ويشرح سلوكه السياسي حتى اليوم، أي أن أعيد بناء حبكة سياسيّة تدعم موقف النائب عباس وسأشير إليه للاختصار بتعبير المنطق العباسي، لاحقا سوف أحاول تحليل هذه الحبكة ومواطن ضعفها.
من الممكن فهم الموقف العباسي باعتباره ينطلق أولا من مقولة مفادها أنه في واقع الأمر لا فرق حقيقي بين اليمين الإسرائيلي وبين ما يسمّى المركز-يسار الإسرائيلي. كلاهما حزب صهيونيّ، قام على حساب شعبنا. وكلاهما يكنّ العداء لنا، وكلاهما اضطهد ويضطهد المجتمع العربي والشعب الفلسطيني عموما. وعليه لا مجال للمفارقة حقيقة بين جانتس ونتنياهو. بالتالي، فإنّ المراهنة على جانتس أو على التيار اليساري-المركزي هي مراهنة ليست في محلّها على الإطلاق، وهي ذرّ للرماد في العيون وتغاضٍ عن الواقع، ومحاولة لإيجاد فروق حيث لا توجد فروق، ومحاولة لتقسيم المجتمع في اسرائيل بين يسار ويمين، في حين أنّه لا توجد فروق حقيقية يمكن المراهنة عليها.
حتّى الآن فإنّ هذا التحليل يقارب تحليل أبناء البلد، أو بعض الأصوات في هامش التجمّع أو أصوات خرجت من التجمّع (ولنا عودة إلى هذه المواقف). إلّا أنّ الخطوة القادمة في الموقف العباسي تقول ما يلي: إذا كانت حقيقة الأمر أنه لا توجد فروق حقيقية في نهاية المطاف بين جانتس ونتنياهو، يوجد أمامنا خياران أساسيّان: الخيار الأول هو أنّه لا يوجد فرق وكلاهما صهيونيّ، فإنّ النتيجة الحتمية هي عدم التعامل مع أي منهما على الإطلاق. أمّا الخيار الثاني مقابل الخيار الأول فيقول أنه بما أنه لا فرق بينهما فإنّ النتيجة يجب أن تكون أنه يجب التعامل مع من يقف في رئاسة الحكومة، بغضّ النظر إذا كان نتنياهو أو جانتس، الليكود أو كحول لافان. لماذا يجب التعامل وليس عدم التعامل؟ لأننا نريد أن نحلّ مشاكل العنف، الأراضي والإسكان والميزانيات وغيرها.
وإذا جاز لنا أن نجمل المواقف، لقلنا أن هناك 3 مواقف نموذجية: أولا موقف أبناء البلد المتمثل في الموقف القائل أنّه لا فرق وعليه يجب عدم التعامل مع أيهما، ثانيا المنطق العباسي، لا فرق وعليه يجب التعامل مع الجميع، وثالثا موقف الجبهة القائل بأنّه يوجد فرق ويجب التعامل لكن هناك فرق مع من نتعامل.
إنّ الموقف العباسي يتفق مع منطق أبناء البلد في أنه لا يوجد فرق، لكنه يختلف معه في ضرورة التعامل مع جميع الأحزاب، والموقف العباسي يتّفق مع الجبهة أنه هناك ضرورة تعامل، لكنّه يختلف معها بأنه هناك أي فرق حقيقي بين اليسار واليمين. إذا قبلنا أنه لا يوجد فرق علينا الاختيار بين أبناء البلد وبين المنطق العباسي، وإذا قبلنا أنه من الضروري التعامل واللعب في الملعب السياسي الإسرائيلي يصبح النقاش عما إذا كان هناك فرق أم لا، أي يجب أن نختار بين الجبهة وبين المنطق العباسي.
عليه فإنّ زبدة الموقف العباسي تقوم على تلاحم مقولتين معا: 1) إنّ حاجاتنا اليومية والمدنية تحتّم علينا التعامل واللعب في الملعب الإسرائيلي.

2) لا فرق بين اليمين واليسار، وإذا لعبنا يجب أن نلعب مع الجميع وعليه النتيجة الحتمية هي أن نلعب ونفاوض ونقايض اليمين، لأننا نحن نتعامل مع دولة وليس مجرّد أحزاب، وللدولة سياسة ثابتة تجاهنا ويجب التعامل مع الدولة العميقة بغضّ النظر من يقودها ويجلس في رئاسة حكومتها، وعليه إذا قررنا اللعب علينا أن نلعب حتّى النهاية.
هذا هو جوهر الموقف العباسي، وتضاف إليه عدّة مداميك إضافية، وإدعاءات تسعى لحفظ تماسك هذه المقولة الأساسية.
من هذه الادعاءات مثلا، الادعاء أنه لا ضير في هذا الموقف العباسي، لأنه أي إنجاز حقيقي ومادي لشعبنا هو مبارك في حين أنّه يأتي دون التنازل عن مواقفنا المبدئيّة ومع الحفاظ على الثوابت.


وإدعاء آخر يشكّل مدماكا إضافيا في مبنى الإدعاء العباسي يقوم عن توجّه يركّز على الأمور المهنيّة العمليّة الموضوعيّة والابتعاد عن السياسة وعن الضجيج والمزاودة والتركيز على ما هو ممكن ودعوة أن نكون واقعيين وألّا نعيش في الأحلام. كما طالب الدكتور عبّاس زملاءه أنه" لا يكفي أن تكون قضايانا عادلة، لكن لازم يكون محامي شاطر يعرف كيف يدير هذه الملفات العادلة" في إشارة منه إلى أنّ طريقته هي طريقة المحامي الشاطر، وهذا ما يذكّرنا بتصريح بندر بن سلطان مؤخّرا حين وجّه اللوم للقيادة الفلسطينيّة واعتبرها أنها صاحبة قضيّة عادلة لكنّهم محامون فاشلون.
من هذه النقطة يتقدّم د. عباس إلى مقولة نظريّة حول فهمه للسياسة ودور رجل السياسة بأنه على السياسيّ ألّا يكون مُتوقَّعًا وألّا يكونَ مفهومًا ضمنًا. (كل ذلك في إطار إجابة على سؤال مذيع القناة الثانية في الراديو عمّا إذا كان من الممكن أن يدعم اقتراح قانون يدعو لإلغاء محاكمة نتنياهو، وتعليل رفضه بإعطاء جواب واضح حول الموضوع بأنّه على السياسي أن يكون غيرَ مفهومٍ ضمنا).


فيما يلي سأحاول أن أقدّم فهمي لما يقوله النائب عبّاس وموضعته مفهوميّا وتاريخيّا ومحاولة فهم المنطلقات التي ينطلق منها من ناحية الأبعاد المستقبليّة التي ينطوي عليها توجّهه ومكامن الخلل فيها، بغضّ النظر إذا كان واعيًا لها أو قاصدًا إيّاها.
بداية، من المهم سبر غور الخيال السياسي الذي يقوم عليه الموقف العباسي -كما أفهمه أنا، وقد أكون مخطئًا-. سيكون من الخطأ اعتبار هذا الموقف بأنّه موقف يتبنّى خطاب المواطنة، أو أنّه يسعى لتغيير طبيعة اسرائيل، أو يتحدّى المبنى الدستوري للدولة. لا هذه ولا تلك. الخطاب العباسي في جوهره خطاب اغتراب تام عن الدولة والمجتمع ويتنازل عن فكرة تغيير جوهر الدولة أو مبناها الأساسي كي تقوم على أسس من العدالة من الممكن الاتفاق عليها بين جميع أعضاء ومواطني الدولة. وعليه فإنّ المنطق العباسي يتعامل بنوع من اللامبالاة تجاه محاكمة نتنياهو، ويرى أنّ قيم سيادة القانون وحرية التعبير وأخطار الفاشية وغيرها من أمور تهمّ أسس الحكم في اسرائيل عامة ما هي إلّا أمور تخصّ المجتمع اليهودي الإسرائيلي أولا وآخرا، لأنّهم هم أصحاب الشأن الأول والأخير. أمّا نحن، وإن كنّا أهل هذا البلد وأصحاب هذا الوطن فإنّنا بالأساس ضيوف في هذه الدولة، وأية محاولة للوصول إلى تفاهمات مبدئيّة مع الدولة فإنّها فاشلة حتما. وعليه فإنّ جلّ ما تبقّى هو تحقيق إنجازات ماديّة هنا وهناك لأبناء هذا المجتمع، دون التدخّل في السياسة الكبيرة وفي الأمور التي تتعلّق بمبنى الدولة وبسؤال فلسطين التاريخيّ الكبير. عليه إنّ محاولات النائب عبّاس للوصول إلى تفاهمات معيّنة مع حكومة نتنياهو لا تنمّ عن تبنّي خطاب المواطنة ولا تبنّي مواقف تعبّر عن رغبة في المشاركة في تغييرات جوهريّة، إنّما تعكس نوعا من عدم الإيمان واستحالة تغييرات جوهريّة في طبيعة الدولة. عليه -باعتقادي- من الخطأ وضع توجّه النائب عبّاس في نفس خانة التّجمّع الذي صكّ طلب دولة المواطنين ولا خطاب الجبهة الديمقراطية الذي صاغ خطاب المساواة. الجبهة بداية ثمّ التجمّع لاحقا، استوعبا أنفسهما بأنّهما وإن كانا يقودان المجتمع الفلسطيني بالأساس، فإنّ مشاريعهما تسعى لتقدّم مخرجا وحلولا وتصوّرا لمصير إسرائيل عامّة. وعليه قلّما نسمع آراء النائب عبّاس حول مواضيع تخصّ حريّة الصحافة، استقلال القضاء، مخاطر الفاشيّة وغيرها من الأمور العامّة. وباعتقادي المتواضع - وقد أكون مخطئا مرّة أخرى- فإنّ فهم النائب عبّاس لطبيعة العلاقة مع الدولة لهي أشبه بفكرة "أهل الذمّة" لكنّها معكوسة، أي أنّه في هذه الحالة يجري الحديث عن جمهور مسلم وعربي يشكّل أقليّة في دولة ذات أغلبيّة يهوديّة. لقد خسرنا المعركة على فلسطين منذ سبعين عاما والتمسّك بمطلب المساواة الذي يقوم على فكرة المواطنة - هكذا يتطوّر الادّعاء- من نفس الدولة التي قامت على أنقاض شعبنا لهو نوع من السذاجة، ومن الأفضل أن نكون واقعيين وعمليّين وبدون أحلام كبيرة، وأن يكون جلّ ما نتوقّعه من هذه الدولة هو نوع من الإنصاف في التعامل وبعض العدل في التوزيع، وشيء من مكارم الأخلاق وهذا توجّه متواضع في مطالبه، محافظ في جوهره. ومما يقع في صلب هذا الموقف نوع من تقسيم الحيّز العام: لا تتدخّلوا بنا وبحياتنا، ولن نتدخّل بكم وبحياتكم.


كل ذلك يقودني إلى النقطة الثانية ضمن ملاحظاتي السريعة حول المشروع العباسي، ألا وهي وضع الثقافة والدين قبل السياسة، وكأنّ لسان حاله يقول للحكومات خذوا السياسة الكبيرة واتركوا لنا الدين والثقافة والمجتمع. أعتقد أنّ هذا قد يفسّر هذا الفارق في اللهجةِ والعنفوان حين يتحدّى النائب عبّاس بعض مركّبات المشتركة (الجبهة أساسا) في مواضيع اجتماعية ودينية بنبرة عالية وحادّة بينما تكون لهجته محسوبة جدّا عند مواجهة الحكومة ووزرائها عند الحديث في أمور تتعلّق بالسياسة. وخاصة سياسة الحكومة تجاه المواطنين المواطنين الفلسطينيّين أو تجاه القضية الفلسطينيّة في إطارها الأوسع والأشمل. وإذا استمرّ النائب عبّاس بنهجه هذا فإنّه باعتقادي سوف يجر الحركة الإسلاميّة الجنوبية إلى مزيج من البراغماتية المرنة سياسيّا ممزوجة بتشدّد عقائديّ دينيّ، وتصعيد الخلاف حول المسائل الثقافية.


والنقطة الثانية تقودني إلى النقطة الثالثة، وهي تلك التي تتعلّق بموضوع الحفاظ على الثوابت وعدم التخلّي عن المبادئ، وهي نقطة يكرّرها د. عبّاس وفي الكثير من المناسبات ليشير إلى أنه ليس هناك أي ضرر أو مخاطرة فيما يقوم به لأنّه يقوم بما يقوم به مع الحفاظ على الثوابت.


في هذا السياق، يحقّ لنا أن نسأل النائب عبّاس: ما هي هذه الثوابت؟ وهل هذه الثوابت دينيّة في جوهرها أم وطنيّة أيضا؟ وهل هذه الثوابت أقرّتها الحركة الإسلاميّة؟ ويا حبّذا لو أنّك عرضتها علينا بالتفصيل، حتّى يكون بمقدورنا أنّ نميّز متى تحيد عن الثوابت ومتى لا تحيد عنها، ومتى تتجاوزها ومتى تلتزم بها.


وأودّ هنا أن ألفت انتباهك -وانتباه آخرين معك في القائمة المشتركة- إلى أنّ أحدا لا يمارس فعلا سياسيّا ويقول أنّه يتخلّى عن الثوابت. وللتذكير فقط فإنّ الإمارات العربيّة حين وقّعت على الاتّفاق الاستراتيجيّ مع إسرائيل بررت ذلك باسم مصلحة الفلسطينيين أنفسهم وقالت أنها لا تزال تلتزم بالمبادرة العربيّة كإطار للسلام مع إسرائيل وترى أنّ حلّ الدولتين هو الحلّ المناسب، والأمر نفسه ينحسب على مصر كامب ديفيد، وعلى أردن الحسين واتفاقية العربة. وعليه فإنّ السؤال لا يبقى ولا يمكن أن يبقى بصفته المجرّدة العامة: أنا مع قيام الدولة الفلسطينيّة أم لا؟ هذا سؤال عام وتافه ولا يعني أيّ شيئ. السؤال الأهمّ لكلّ من يدعم قيام الدولة الفلسطينيّة هو: ماذا أنت مستعدّ أن تقوم به كي تقوم هذه الدولة؟ أيّ إجراءات، أيّة جهود وأيّة مخاطر مستعد للقيام بها؟ فإذا كانت دولة أوروبيّة تقول أنّها مع قيام دولة فلسطين علينا أن نسألها مباشرة -هل يمكن لهذه الدولة أن تقوم دون فكّ المستوطنات؟ والجواب الواضح بالنفي، عليه يكون السؤال التالي: هل أنتم مستعدون لمقاطعة المستوطنات وبضائعها اسهاما منكم في تفكيكها؟ فإذا كان الجواب على هذا السؤال بالنفي، ففي الحقيقة لا يبقى أيّ معنى حقيقيّ للموقف الأصليّ الذي يدعم قضية دولة فلسطين لأنّ كلّ ما يبقى منه مجرّد رغبة، وهناك فرق كبير جدّا بين الرغبة والموقف. من يرغب بإنهاء الاحتلال لكنّه غير مستعدّ للقيام بأيّ عمل، جهد، أو دفع أي ثمن كي ينتهي هذا الاحتلال يمكن القول أنّه يرغب بإنهاء الاحتلال لكن ليس لديه موقف من إنهائه،لأنّ من يسعى حقيقة لغايات معينة فإنّ عليه أن يقبل بالوسائل التي تقود لتلك الغايات، وإذا كان غير ذلك أي رغب النتيجة ورفض الوسائل، فذلك يعني أنّه قد يكون ذا نوايا طيّبة لكنّ ليس لديه موقف ولا مشروع، وهذا الحديث موجّه للنائب عبّاس، لكنّه موجّه أيضا لبقيّة أعضاء المشتركة.


عليه عندما يجري الحديث عن عدم التخلّي عن الثوابت والحفاظ على المبادئ علينا أن نتفرّس مليّا في معنى ودلالات هذه المقولات. إنّ الحفاظ على الثوابت لا يتمّ عن طريق وضع الثوابت في الثلّاجة كي لا تتلف. المحافظة على الثوابت يعني استعمالها وتوظيفها وشحذها والعودة عليها وتكرارها في الحيّز العام وفي كلّ منبر. والمبادئ بهذا المعنى هي أشبه بالسيوف والإرادة منها إلى اللحم والخبز، لأنّ الحفاظ على السيوف يعني استلالها وبغير ذلك تصدأ، والحفاظ على الإرادة يعني استعمالها وشحنها.


لماذا أسوق كلّ ذلك؟ أسوق ذلك لأنّني في عدّة مرّات استمعت إليك وشاهدتك أثناء عملك السياسيّ. إنّ تركيزك على ما تسميه الأمور المهنيّة والعمليّة والابتعاد عن السياسة (وهذا ما قلته في برنامج القناة الثانية مع كالمان ليفسكيند)، يشي أنّ مفهومك للحفاظ على المبادئ يعني ألّا تجاهر بها وأن تتركها وحيدة في البيت، لأنّك تعتبر هذه المبادئ نوعًا من السياسة (أو الضجيج) وتخاف أن تقف السياسة كحجر عثرة أمام تحقيق إنجازاتك العينيّة. قد يكون هذا التكتيك ناجحا (لا أعتقد ذلك)، ولكن عليك أن تعترف أنّ ما يقع في صلب هذا التكتيك هو تحييد مواقفك المبدئية واخفاءها، وقد تسمي كلّ ذلك نوع من المحافظة على المبادئ، لكنّه نوع من المحافظة على المبادئ بنفس الطريقة التي نحفظ فيها اللحوم في الثلّاجات.


سأسوق مثالا آخر، أنا استمعت إلى خطابك في ذكرى الكارثة، أنا معك تماما بضرورة الاعتراف بذكرى المحرقة وضرورة تعلّم الدروس والعبر منها، ولا أعتقد أنّ أيّا من زملائك أعضاء الكنيست العرب يخالفونك الرأي في هذا الموضوع. لكن هل يعقل الحديث عن الكارثة وضرورة مواجهة ممارسات لاساميّة، دون أن نشير إلى التعريفات الجديدة للاساميّة التي تهدف كلّها لإسكات الشعب الفلسطينيّ وتستهدف روايته وتسعى إلى قمع مطالبه وتحاول تصويره وتصوير نضاله العادل في جوهره إلى نضال يجري وصمه باللاسامية؟ هل يعقل أن نغفل كلّ هذا ونقف على المنبر كي ندين جرائم النازيّة ونحيي ذكرى الكارثة دون التشديد أنّ الضحية اليهوديّة تحوّلت إلى جلّاد يجلد شعبك منذ سبعين عاما؟


لا حاجة للإطالة أكثر من اللازم، الأمثلة كثيرة، لكن ما أردت قوله في هذا المضمار هو أنّ فكرة الحفاظ على الثوابت فكرة مركّبة ومعقّدة، والتنازل عن بعض المواقف والمبادئ لا يكون بإعلان التنازل عنها، إنّما في عدم قولها جهارة وعن طريق حفظها في الثلّاجة، وهذه طريقة لقبرها وليس الحفاظ عليها.


النقطة الرابعة تتعلّق بما يمكن تسميته: السطح الأملس المائل، وهذه النقطة موجّهة جزئيا للنائب عبّاس لكنّها تعبّر عن تراث فكريّ فلسطينيّ يشترك فيه اليمين واليسار، التنوّري والمحافظ على حدّ سواء.
ماذا أقصد بنظرية السطح الأملس المائل؟ ما أقصده هو تلك النظرية أو المقولة التي تقول أنّه في حال صعدت على هذا السطح الأملس المائل فإنّها مسألة وقت فقط حتّى تصل حتما إلى أسفل السطح المائل لأنّه أملس ولأنّه مائل، ولن يكون بمقدورك التوقّف في منتصف السطح وفي منتصف الطريق وفي منتصف الموقف، فإمّا أن تقبل المنطق حتّى نهايته، وإمّا أن ترفضه منذ بدايته، والخيار هو أن تعلو السطح أو لا تعلو، لأنّه بعد ذلك لن يكون لديك خيار سوى التدحرج إلى أسفل السطح، وإذا شئت ألّا تتدحرج، إيّاك أن تعلو السطح المائل الأملس.


أبناء البلد كحركة وطنية ترى نفسها خارج الصيرورة الإسرائيليّة، رأت دائما أنّه من الخطر الصعود إلى هذا السطح المائل، وفي عرفها فإنّ السطح المائل في حالتها هو المشاركة في انتخابات الكنيست. لأنّها إذا قبلت بالخطوة الأولى فسوف تليها خطوات أخرى، والتنازل الأول يقود إلى تنازلات لاحقة. يبدو لي أنّ النائب عبّاس في هذه الحالة يقبل بمنطق السطح الأملس المائل، ولسان حاله يقول، ما دمنا قد صعدنا إلى السطح، فلا مفرّ من الوصول إلى أسفله، وأن نصل إلى نهاية هذا الطريق. إن من يذهب للكنيست بهدف التأثير عليه أن يذهب في منطق التأثير حتّى النهاية، وعلما بأنّ الكنيست ذات تأثير محدود فإنّ التأثير الحقيقيّ يكون في الحكومة وقد يصل منسوب التأثير أعلى المستويات إذا شاركنا في الحكومة نفسها، هذا هو منطق د. عباس.
لا شكّ أنّ ادّعاء السطح الأملس المائل هو ادّعاء ليس بالبسيط، وهو يقوم على الفرضيّة أنّ الخطوة الأولى التي تتخذها سيكون لها تأثير على الخطوات التالية، وأنّ اللعبة التي تبدأ اللعب داخلها سوف تجرفك معها، وأنّ اللغة التي تستعملها كأداةٍ قد تتحوّل عليك بحيث تصبح أنت بنفسك الأداة في يد اللغة، وحجرا في اللعبة. لكن هنا علينا أن نقف عند 3 ملاحظات هامة تتعلّق بالسطح الأملس، الملاحظة الأولى تتعلّق بتحديد نقطة البداية العليا للسطح الأملس، ومتى يجوز أن تعتبر أنّ سياسيّا معيّنا قد صعد إلى السطح المائل الأملس. أي أنّه قد بدأ المشاركة في لعبة قد يكون ضحيّتها، وأنّه على سطح مائل في طريقه للتدحرج وأنّ مصيره الوصول إلى القاع.


سأعطي مثالا: إذا كانت أبناء البلد تعتبر أنّ المشاركة في الانتخابات البرلمانية هي العلامة الفارقة وهي تشكّل الفرق بين من يصعد على السطح الأملس وبين من لا يصعد، فإنّ البعض الآخر لا يعتقد أنّ الفرق هو بين المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة هي خطّ المياه الفارق، إنّما هناك خطّ مياه فارق آخر، إذ أنّ الذين ذهبوا للبرلمان، ليسوا طينة واحدة ولا يجوز اعتبارهم أنّهم صعدوا جميعا على السطح المائل الأملس، وأنّه توجد درجات مختلفة على هذا السطح، وأنّه في أعلى السطح المائل هناك مناطق خشنة جدّا، يمكن الوقوف عليها بثبات والنظر نحو أسفل السطح المائل دون التدحرج حتّى نهاية السطح الأملس. بعض الأوساط في التجمع، وبعض الأوساط من تجمّعيّين سابقين (علي مواسي على سبيل المثال نشر بوست بهذه الروح)، يرون أنّ السطح الأملس وعلامة الماء الفارقة لا تبدأ مع المشاركة/ عدم المشاركة في الكنيست إنّما في التوصية على جانتس ويعتقد أولئك الذين يوصون على جانتس (بموجب منطق علي مواسي) أنّهم يستطيعون التأثير وبرأيه فإنّ هؤلاء جميعا يقفون على السطح الأملس وسريعا سيجدون أنفسهم في قاع السطح يتدحرجون حتّى نهايته وقد يجدون أنفسهم شركاء في الحكومة وجرائمها. وماذا بالنسبة لهم (المتوافقين مع منطق علي)؟ بالنسبة لهم فإنّهم يقفون خارج السطح الأملس ولا خطر أن ينزلقوا.
بالمقابل قد نجد أنّ هناك البعض في الحركة الإسلاميةّ الشمالية الذين يعتقدون أنّهم هم وحدهم خارج السطح الأملس المائل، لأنّ السطح الأملس لا يبدأ مع المشاركة في انتخابات الكنيست إنّما في انتخابات السلطات المحلّيّة لأنّ هذه السلطات المحلّيّة بحد ذاتها عبارة عن ذراع للسلطة المركزيّة ومن يرغب بالبقاء خارج إطار الدولة الإسرائيليّة وخارج مؤسّساتها وألّا يتورّط، عليه أن يبقى خارج عمل السلطات المحليّة أيضا، لأنّ الذي يبدأ في السلطات المحلّيّة سيجد نفسه عاجلا أم آجلا يشارك في الانتخابات البرلمانيّة ولن نستغرب إذا وجدناه لاحقا يشارك في الحكومة من قريب أو من بعيد، بدعمٍ خارجيٍّ أو دعم داخليّ.
الملاحظة الثانية حول السطح الأملس تهدف لأن تقول أنّ السطح ليس أملس بنفس الدرجة، وليس مائلا بنفس الدرجة، وقد يستطيع البعض إذا استعمل عضلاته جيّدا وتمسّك جيّدا بمرجعيّته الشعبيّة والوطنيّة أن يصعد السطح الأملس لا أن ينزلق حتّى النهاية، أي إلى أسفل السطح. إنّ وضع جميع من صعدوا على السطح المائل باعتبارهم جميعا من نفس النوع يعني التغاضي عن الفرق بين توفيق زيّاد وعبد الوهّاب دراوشة، وبين حنين زعبي وحسنية جبارة، باعتبار أنّ الجميع ذهبوا للكنيست، أو أن نعتبر عايدة توما ومنصور عبّاس في نفس الخانة لأنّ كلاهما أوصى لرئيس الدولة على جانتس لرئاسة الحكومة.
إنّ الحكمة تقضي دائما أن نرى العامل المشترك خلف ما يبدو مختلفا، لكنّ ذلك هو دائما نصف العمل ونصف الحكمة، لأنّ النصف الثاني يقضي أن نرى المختلف أيضا وراء ما يبدو متشابها. عليه يمكننا أن نقول للسيّد عبّاس: يمكن أن نذهب للكنيست وأن تحاول التأثير -نعم، لكن محاولة التأثير لا يعني أن ننتهي بالغزل المتبادل والإفراط في التأدّب السياسيّ الذي يمنع منك قول رأيك في سياسة نتنياهو، ويدفعك إلى مديح الشرطة، ويغريك بالتحريض على زملائك في المشتركة بادّعاء أنهم شعبيّون ويحبّون الضجيج والمزاودة.


النقطة الخامسة التي أودّ التطرّق إليها بخصوص نشاطك ومواقفك المعلنة تتعلّق بتقديرك لطبيعة الصراع وطبيعة المطالب وطبيعة نتنياهو. سأبدأ من الأخير وألفت نظرك إلى أنّ السيّد نتنياهو لم يفِ بأيّ وعد من أي نوع كان، لا ليأير لابيد، ولا يعلون، ولا حتّى ليبرمان، وأخير ولا حتّى جانتس. لماذا تعتقد أنّك أفتح وأشطر من هؤلاء؟ ولماذا تعتقد أنّه سيصدُقُ معك، بعد أن كذب في وعوده مع الآخرين جميعا؟ ولماذا تستعجل الهجوم على زملائك في المشتركة قبل أن تحصل على أي إنجاز من أيّ نوع كان من قبل هذه الحكومة ومن قبل رئيسها؟


إلّا أنّ الأمر يتجاوز كلّ ذلك ليصل إلى جوهر فهمك لطبيعة الصراع في هذه البلاد وطبيعة العمل السياسيّ.
أنا أوافق معك أنّ القضايا العادلة بحاجة إلى محامين جيّدين، لكن حتّى لو افترضنا أنّك محام جيّد -بفارق عن زملائك في المشتركة- فإنّ نجاح المحامي الجيّد حتّى لو دافع عن قضايا عادلة غير مضمون على الإطلاق، لأنّ شرط نجاح المحامي الجيّد في القضايا العادلة هو وجود قاضٍ عادل أصلا! عزيزي د. عباس، أنت لست في محكمة تماما، والذي تمثل أمامه ليس قاضيا عادلا، إنّما عدوّ سياسيّ يحرّض عليك وعلى شعبك ليل نهار، وتوقّع العدالة منه يشي بنوع من عدم فهم لطبيعة اللعبة السياسيّة. أنا معك تماما أنّنا يجب أن نجد دائما الطريقة التي نستطيع فيها مخاطبة الشارع اليهودي وأن نحاول التأثير عليه، لكنّ الشارع اليهوديّ والمجتمع اليهوديّ شيء ونتنياهو شيء آخر. وصحيح أنّنا يجب أن نصيغ مطالبنا بطريقة مقنعة، لكن يجب علينا أن نعرف أنّ ما يحصل بيننا وبين هذه الحكومة بشكل خاص ومع هذه الدولة بشكل عام، لا ينبع من سوء تفاهم، إنّما هناك صراع حقيقيّ في هذه البلاد. طبعا هذا الصراع لا يعني إمّا "نحن" أو "هم"، طبعا لا، لكنّ محاولة إرجاء الكلام السياسيّ من أجل أن تكون مقبولا سيصطدم بحاجز حقيقيّ لأنّ هناك مشكلة مع مجرّد وجودنا في هذه البلاد، حتّى قبل أن تتفوّه بأيّة كلمة. عليه عزيزي د. عبّاس، إذا استمرّيت في خطّك لسوف تجد نفسك خلال فترة وجيزة جدّا في موقع التحريض على زملائك في المشتركة وعلى شعبك بأجمله. أقترح عليك التمهّل وألّا يعمي عينيك هذا البريق الإعلامي وهذا الاهتمام الزائد من الصحافة العبرية.


النقطة السادسة والأخيرة تتعلّق بكيفيّة فهمي لطبيعة العمل السياسيّ لفلسطينيّي الداخل عموما. نحن جزء من شعب فلسطينيّ ملفه ما يزال مفتوحا، وجرحه ينزف والتآمر عليه ما يزال قائما. أية ممارسة سياسيّة لا تأخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار سوف تصطدم بالحائط. بالمقابل نحن مواطنون في هذه الدولة، حتّى وإن كانت هذه المواطنة قد فرضت علينا فرضا، وحياتنا اليوميّة والمادّيّة والحقوقيّة تدور في فضاء هذه الدولة، وأيّة ممارسة سياسيّة تغضّ الطرف عن هذه الحقيقية سوف تصطدم بالحائط عاجلا أم آجلا.


كيف نحافظ على هذا التوازن؟ ليس لديّ جواب جاهز وشافٍ ومعروف سلفا، تماما كما أنّه ليس لديّ معادلة جاهزة لأعرف فيها معنى السياقة الحذرة، لكنّني عندما أرى سائقا يسوق دون حذر أستطيع أن أميّز ذلك .


إنّ ادّعاء الهويّة والانتماء الفلسطينيّ بحدّ ذاته غير كافٍ لأن يبرّر عدم التصويت للكنيست، وادّعاء التأثير بحدّ ذاته غير كافٍ ليبرّر التوصية على جانتس ولا أن يبرّر المراهنة على نتنياهو. مواقفنا دائما مركّبة، وكون المواقف مركّبة يعني أنّ عليها أن تأخذ عدّة مبادئ بعين الاعتبار في نفس اللحظة. ليس كلّ موقف مركّب هو موقف انتهازي، وليس كلّ موقف يهتدي بمبدأ واحد هو موقف مبدئيّ. هناك ثمن لمحاولة التأثير وهناك ثمن للعزوف عن أيّة مشاركة سياسيّة في الحيّز الإسرائيليّ، والقضيّة تحتاج إلى أخذ الأثمان المدفوعة بعين الاعتبار.


عندما أراجع ممارستك في السنتين الأخيرتين أشعر أنّك ذاهب في طريق بدايته معبّدة لكنّه مليء بالحفر العميقة، والاستمرار في هذا الطريق الذي يجمع بين تغييب الوطن والسياسة من ناحية واستحضار مكثّق للثقافة والدين سيؤدّي -كما أعتقد- إلى نوع من العودة إلى الوراء وإلى تطوير نموذج "المسلم الإسرائيليّ" وكلّ ذلك، بعد أن تجاوزنا نموذج العربيّ الإسرائيليّ. أرجوك لا ترجعنا إلى هناك!

مقالات متعلقة