الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 18:01

"كلكامش في دار المسنين" للدكتور الشاعر ريكان إبراهيم-ملحمة أم مأساة؟-حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 21/01/21 01:40

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

من يتابع الشاعر العراقي ريكان إبراهيم يجد أن هذا الشاعر الكبير فيما يكتبه في الآونة الأخيرة يأخذ الشعر العربي إلى مكانه الصحيح ويوظفه في عرض قضايا سياسية واجتماعية كبيرة تشغل الإنسان على مختلف انتماءاته ليس للبكاء عليها وإنما لمواجهتها وإدراكها.
هذا الشاعر كطبيب عام وطبيب نفسي يدرك جيداً العلاقة المباشرة بين الروح والجسد تماماً كما العلاقة بين الفن والمعتقد. ففي كثير من الأحيان يتراءى لنا أن المعتقد قد يعيق الفن أو يشكل حجر عثرة في طريق تحليقه. وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد ما. لكن الفن الذي يتجاوز المعتقد أو يقفز عنه ليس فناً لأنه منذ البداية شكل معول هدم وأداة تدمير. وأي فن هو هذا الذي يهدم ولا يعمر؟ كل أديب حقيقي يدرك أن الأدب يؤدي دوره من خلال احترام المعتقدات والعادات والتقاليد وليس بالانقلاب عليها.
"دار المسنين" هذا المصطلح أظن أنه دخيل على تراثنا ويتناقض مع معتقداتنا. وأظن أن الشاعر قال "دار" ولم يقل "بيت" كما هو متداول في المجتمعات التي تتعامل مع هذه الأطر كظاهرة حضارية، لأنه لا يحب هذه المراكز ولا يرتاح لها ومن بداية القصيدة يظهر لنا أن الوجع شامل وعميق:
ماذا تُسمّي البيتَ حين يكونُ مَقْبرةً
وفيها أهلُها يتحركّونْ
ماذا تُسمّي الميتّين بدون مَوتْ
والناطقينَ بدون صَوتْ؟
ماذا تُسمّي القبرَ حين يصير قبل الموت
بيتْ
هذا هو الوضع العام، بتساؤل هادئ جداً وموجع جداً ومأساوي جداً يضعه الشاعر أمامنا بكل قسوته وبشاعته ومرة واحدة ومنذ البداية. ولِمَ لا، فالجميع يعرف ذلك. والشاعر لم يفعل شيئاُ أكثر من إيقاظنا أو لفت انتباهنا أو تذكيرنا. وهدفه هو تهيئتنا لما سيقوله لاحقاً.
وماذا سيقول لاحقاً أصعب من أن بيوتنا مقابر ونحن نتحرك فيها. وأننا أموات دون موت وقبورنا هي بيوتنا قبل أن نموت. وفوق كل ذلك مصيرنا جميعاً هو الموت.
الشاعر لم يطفئ الأضواء. الظلمة سائدة ومسترخية. والمسرح قائم وموجود ولكننا نسيناه فجاء ليلفت انتباهنا أنه سيروي لنا ملحمة مأساة هو متأكد أنها ستوجعنا كما أوجعته لأنها تمس مشاعرنا ومعتقداتنا وعاداتنا وتقاليدنا الجميلة الرائعة كما مست تقاليده ومعتقداته.
الحدث في هذه القصيدة الملحمة هو الموت الذي لا مفر ولا مهرب منه. وهو يحوّم بشكل متواصل فيما وراء كلماتها يطل أحياناً ويختفي أحيانا لكنه يظل محركها وشاحنها رغم أن أحداثها تدور في دار المسنين. الشاعر اختار دار المسنين لأنها المسرح الأكثر ملاءمة لمسرحية تتحدث عن الموت - مأساة الإنسان. يضاف إليها مأساة أخرى أن يضطر قبل الموت للعيش في ذل دار المسنين عيشاً الفناء أفضل منه بكثير:
"ليعيشَ في دارٍ يرى عنها الفناءَ أحبَّ
من عيشٍ ذليلْ"
هذا التجنيد الذكي لكل ما فينا من مشاعر هو تحضير مناخنا وأجوائنا لما سيقوله. هو تهيئة أرواحنا المدفونة لبدء العرض الموجع. ركلة خفيفة لعقولنا بسؤال بسيط لتستيقظ من سباتها. ونفض للغبار عن كل ما فينا وما حولنا: "ماذا تسمي البيت حين يكون مقبرة؟"
بعد هذا التحضير الذي أيقظنا ونبهنا لما نحن فيه تبدأ المأساة أو الملحمة التي سيرويها لنا الشاعر، بطرقات خفيفة على باب المكان-المسرح الذي تدور فيه وهو دار المسنين:
قد قالَ لي :مَنْ أنتَ؟ مَن في البابِ؟
قلتُ: أنا الطبيبْ
أنا عالِمُ النفسِ المليئةِ بالخراب وبالنَحْيب
أنا مَنْ نذرتُ بَقيّتي لعلاجِ مَنْ عاشوا
وهم موتى، فبعضُ حياتِنا موتٌ، وبعضُ
الموتِ أَهونَ من تَرقبِّه الرهيبْ
الدرامية واضحة ويلقي بها الشاعر كقنبلة مما يؤكد أننا في سياق قصيدة مأساوية. لكنها أجواء ملحمة تتراءى من خلال الأسلوب السردي في عرض الأحداث.
ليس من تمجيد وليس من بطولة تستحق التمجيد. ما هي إلا حالة رديئة تعبر عما وصلنا إليه من تردي يحاول الشاعر عرضها أمامنا لننتبه لها. هو يعد الأجواء ويضبط الديكور استعداداً لما سيقوله لاحقاً. يحشد ما أمكن من معطيات وتفاصيل ويضعها أمامنا: حارس، طبيب هو عالم نفس وجمهور من الأحياء الأموات.
الحدث هو فحوصات روتينية لهؤلاء الأحياء الأموات. والحدث عبثي وربما تراجيدي لأن المعالِج لم يعالج نفسه مما جاء يعالج الآخرين منه. أهي مهزلة أم تراجيديا؟ ومن خلال هذا الحدث يعرض لنا الشاعر مأساة هؤلاء القوم التي في الحقيقة ما هي إلا مأساته هو أيضاً ومأساتنا جميعاً.
"من أنت؟ من في الباب؟" المكان مغلق والسائل متوتر كما يبدو جلياً من بنية السؤال. فيجيء الجواب ليتكون حوار درامي يبدو من خلاله بشكل جلي أننا أمام مأساة. السائل متوتر والمجيب لا يقل عنه توتراً لأنه يعرف تماماً أنه لا فرق بينه وبين من جاء ليعالجهم فهو يعاني مما يعانون ومصيره لا يختلف بتاتاً عن مصيرهم. هنا هو البرزخ بين المأساة والملحمة. في هذا البرزخ تبدأ القصيدة الملحمة وبطلها هو الطبيب المعالج.
قمة المأساة أن تبث الأمل للآخرين وأنت أحوج ما تكون إليه. وقمة البطولة أن تساعد الآخرين وأنت أحوج ما يكون للمساعدة. ما أصعب أن تبتسم لتخفف عن الآخرين وأنت تبكي في داخلك. هذه هي حال الطبيب الشاعر. ولكنه مطالب بأن يكون قوياً مبتسماً وعليه تأدية هذا الدور . "أنا من نذرت بقيتي". بقيتي، تعبر تعبيراً صارخاً عما يدركه البطل من تفاهة حياته التي لا تختلف عن تفاهة حياة زبائنه التي لم تكن وما هي إلا انتظاراً رهيباً للموت.
الشاعر يقف بنا في البرزخ وبهدوء تام يحافظ على التوازن بين المأساة والملحمة. يلمّح ويسرد لنا المغامرات والبطولات الملحمية لبعض ساكني الدار ويذهب إلى الحوار الدرامي ليعرض تفاصيل المأساة :
فأنا صديق الأشقياءِ، فأنتَ مَنْ؟
أقعى على حِقْويهِ يرقُبني وقالَ :أنا الرقيبْ.
أنا حارسٌ في بابِ دارِ مُسنَّنينَ بآلةِ
الزمن العصيبْ
- حَسَناً ومِمّن أنتَ تحرسُهمْ ؟يقولُ:
من الهرَبْ
- يا صاحبي، أرأيتَ في دنياكَ
مَوتى يهربون؟
هذا الحوار المأساوي الذي سيتكرر مع التقدم في السرد هو الضوء الذي يستعمله الشاعر ليكشف رويداً رويداً قسوة وفداحة ما نحن فيه وإلى أين وصلنا. كان بإمكانه الاستغناء عنه والإبقاء على ملحمية القصيدة لولا استياءه ورفضه للحدث المفروض عليه بحكم عمله وواجبه كمعالِج.
"أقعى على حِقْويهِ ثانيةً وقالْ:
إدخلْ لتعرفّ ما هُناكَ ومَنْ هناكْ
دارُ المُسنّين الذين تزورُهم يا سيدي
هي آخِرُ الوَقْفاتِ في دربِ الذهاب إلى
الهلاكْ
يقفُ القطارُ بها ويأخذُ مَنْ أطالَ
الانتظار
وينامُ مَنْ قد ظلَّ، منتظِراً قطاراً
آخراً يأتي إذا طلعَ النهارْ"
الحدث في هذه القصيدة الملحمة هو "الفناء" أو الموت الذي لا مفر منه وما الحياة إلا انتظارا حتمياً له وسيراً حثيثاً إليه. قطار الموت يمر بين الحين والآخر يأخذ ما يستطيع ويترك المنتظرين للمرة القادمة.
الحياة هي محطات انتظار للموت، وهي محطات متتالية ينتقل فيها الإنسان من محطة إلى أخرى بشكل روتيني. لكن أن يُلقى به في "دار للمسنين" كمحطة أخيرة في انتظار المصير الرهيب هو قمة المأساة. و"أقعى" هي التعبير عن احتقار الشاعر لهذه المحطة وللقائمين عليها.
"عندما يتشابَهُ ضوءُ النهارِ ونورُ
المساءْ
عندما يستوي حَرُّ صيفٍ وبَرْدُ شتاء
عندما تستوي الظلماتُ ونور المكانْ
عندما يستوي ال يعلمونَ ومَنْ يجهلونْ
عندما يُصبحُ المبدعونَ وسعر الترابِ سواءْ
عندما تكثُر ال عندماتْ
تجفُّ الحياة"
الشاعر يغير بحر القصيدة ليحشد لنا مزيداً من المعطيات التي تؤكد تفاهة حياتنا. ليس الهلاك هو فاجعتنا الوحيدة وإنما حياتنا أيضاً فاجعة بسبب التباس الأمور علينا إلى حد لم يعد أي فرق بين الجيد والسيئ ولا بين الخير والشر. هذه الفوضى تجعل من حياتنا صحراء جافة لا طعم للإقامة فيها.
الشاعر كمصور ينتقل بالكاميرا بين دار المسنين وبين الحياة في خارجها. وبعد إظهاره للفوضى وتشابه الأشياء في الخارج يعود إلى داخل الدار ليظهر لنا المسنين كدمى تتحرك ببطء شديد بين أسرة مغطاة بالأبيض الذي يذكرنا بالموت. هذه الدمى التي تتحرك ببطء شديد تعاني من العزلة النفسية والجسدية. أجساد واهنة ووجوه صفراء تنتظر الفاجعة. تنتظر قطار الموت الذي سيمر بعد قليل ليأخذها إلى مصرها المحتوم. وصف دقيق وتأكيد على الفوضى القاتلة التي تزيل الفواصل لتختلط الأشياء وتغيب المعايير: أسرة للموت أو للنوم. قمصان بيضاء ملابس للنوم أو أكفان. نزيل واحد في الغرفة احتراماً للخصوصية أو لأن القبر لواحد فقط.
وسط هذا الاستعداد للموت وفي أجواء هذه الجاهزية للمصير المحتوم يلتقي شاعرنا بكلكامش البطل الأسطوري الذي رفض الخنوع للمصير المحتوم والاستسلام للفاجعة.
" - أخي مَنْ أنتَ؟أسألُهُ فينظرني بنصفِ
العينِ ثم يقولُ:كَلكَامشْ.
- أعِدْ ما قلتَ!مَنْ تَعنيْ؟
- أأنتَ صديقُ أنكيدو؟
- أأنتَ الفارسُ المسؤولُ عن طوفانِ وادينا؟
أجابَ:بلى، فقلتُ:إذنْ، لماذا أنتَ في دار المُسنّينا؟
هنا ابتسَما...
وقالَ:المَرّةَ الأخرى ستلقاني ...أنا وحدي.....
لأذكُرَ كُلَّ ما عندي."
حتى كلكامش الذي رفض الهلاك وخرج في رحلته الشهيرة باحثاً عن سر الخلود، يقيم هنا في دار المسنين. لكنه لم يستسلم للهلاك ولن يستسلم وسيكون أخر من يصعد على آخر قطار. هل يعزي نفسه؟ فهو سيرحل وينضم إلى الهالكين قبله. ولكنه سر الحياة الذي يدفع للتشبث بها إلى آخر رمق.
كلكامش لم يستسلم وأوجد لنفسه وظيفة حتى وهو في دار المسنين. سيعرّف الشاعر بمن جاءوا إلى هذه الدار. سيقوم بذلك وهو يعرف أنه في يوم ما وفي لحظة معينة سيكون وحيداً هو أيضاً وبعد أن يقول كل ما عنده سيصعد إلى آخر قطار.
في دار المسنين لا قيمة للزمن ولا صراعات لأن الحياة فقدت قيمتها ولم يبق فيها ما يستحق النزاع والمنافسة. كل من في الدار في حالة انتظار أصعب من الموت. الشاعر يعود ويكرر في أكثر من موقع في القصيدة وبأساليب مختلفة أن الموت أفضل من الانتظار وأفضل من الوحدة وأفضل من الضعف.
- لماذا وَحْدَكَ الآنا؟
+ أجابَ وكان يَحكي لي:
لقد رحلوا.....
فهُم كانوا هنا، مرضى، بلا مأوى
كبارَ السِنً، لا أهلٌ ولا مَنْ يسمعُ الشكوى
لقد رحلوا ولم أرحَلْ
لأنّي قد رفضتُ الموتَ، بلْ قَرّرتُ أنْ أحيا
فعاقبني إلهُ الماءِ أن أقضي حياةً لا أرى أحَدا
لقد أغضبتُ آلْهتي فذُقتُ الهمَّ والنكَدا
في هذه الملحمة الحدث الظاهر هو دار المسنين. المحطة الأخيرة في انتظار قطار الموت. لكن الصراع الحقيقي الذي يجتاح الشاعر ليس هذه المحطة وإنما الأحداث الخفية التي تتناولها القصيدة المأساة بالتلميح لأسباب عقائدية مزروعة في نفس الشاعر وليس لديه إجابات واضحة عليها. أحيانا يقول عن الموت أنه فناء وهذا يتناقض والإيمان بالآخرة. وأحياناً يقول عنه هلاك وهذا أيضاً يحمل في داخله أن الموت هو النهاية. لكن الشاعر يعود عن ذلك على لسان جلجلمش :
وسوفَ يمرُّ عليَّ الجميعُ هنا مثلما مرَّ من
قبْلِهم آخرونَ، وراحوا لأنَّ الجميعَ الى ربِّهم راجعونَ...
إيمان لا لبس فيه بأن الموت ليس النهاية واعتراف واضح أن الجميع سيبعثون ويرجعون إلى الله سبحانه وتعالى.
اللقاء بجلجامش هو الذي أعطى القصيدة الروح الملحمية ولكن الحوار معه جعل منها قصيدة المأساة البشرية المتمثلة في عبثية المعركة التي يسمونها الحياة. عبثيتها لأن كل من يخوضها لديه طموح وحيد هو الخلود. والجميع يعرف أن هذا الطموح عبثي أيضاً.
الأدب الهادف يحمل رسالة. أحياناً تكون رسالة التغيير وأحياناً تكون رسالة التحريض على التغيير. والشاعر هو وكيل تغيير يتطلع دائما إلى الأمام لاستكشاف الطريق وإنارة الدرب. في هذه القصيدة يتعرى الشاعر تماماً ويضع كل نقاط ضعفه كمخلوق نهايته الهلاك. ربما كرد فعل على طموحه في أن يكون مختلفاً. طموحه الذي لم يوصله إلا ليكون واحداً من هؤلاء الذين جاء ليخفف عنهم. وكأنه يقول بسوداوية مفرطة: أنا واحد منكم! أنا لا أختلف عنكم! أنا لا أساوي شيئاً لأن نهايتي كنهايتكم! فكل مشواري في الدراسة وفي التحصيل وفي المعرفة لم يجعلني أختلف عنكم لأن نهايتنا واحدة هي المجيء إلى هذه الدار، دار المسنين، وانتظار قطار النهاية!
مأساة الشاعر هي القلق من النهاية. هذا القلق الذي هو نتيجة مباشرة من خوف خفي من الفناء لا يجرؤ الشاعر على التصريح به. لأنه يتناقض مع المعتقدات. وما استحضار جلجامش إلا من باب محاولة التخفيف من هذا القلق الفظيع. فالشاعر لم يكن وحده من فشل في أن يكون مختلفاً فها هو جلجامش فشل أيضاً. لكن فشله ليس مطلقاً لأنه رفض أن يرحل فالملحمة أو القصيدة خلدته ولكن ليس الخلود الأبدي. منحته فرصة أن يكون آخر الراحلين. ولذلك لجأ الشاعر لكتابة قصيدته كتعبير عن الرفض. هذا الرفض سيوفر له الخلود حتى لو لم يكن أبدياً.
هذه المراوحة بين اليأس والأمل، بين اليقين والشك، بين الضعف والقوة، بين الاستسلام والرفض هي تجسيد لنمط الحياة التي نعيشها. فحتى جلجامش بكل مغامراته وبطولاته جاء إلى المحطة الأخيرة ليصعد إلى القطار الأخير. لم يستسلم وظل على عناده وحبه للخلود. هذا العناد وفر له أن يكون آخر الراحلين. ولكن... أليس في ذلك عقاب أيضاً؟
- أخي مَنْ أنتَ؟أسألُهُ فينظرني بنصفِ
العينِ ثم يقولُ:كَلكَامشْ.
- أعِدْ ما قلتَ!مَنْ تَعنيْ؟
- أأنتَ صديقُ أنكيدو؟
- أأنتَ الفارسُ المسؤولُ عن طوفانِ وادينا؟
أجابَ:بلى، فقلتُ:إذنْ، لماذا أنتَ في دار المُسنّينا؟
هنا ابتسَما...
جلجامش صديق أنكيدو والفارس الذي تحدى الطوفان ونجا منه والذي كتب ملحمة خالدة لكنه في النهاية في دار المسنين. الإنسان مهما كان قوياً يظل ضعيفاً. هذا ما أراد الشاعر أن يقوله لنا. ضعيفاً أمام قدرة الخالق. وضعيفاً أمام مصيره الحتمي.
- لماذا وَحْدَكَ الآنا؟
+ أجابَ وكان يَحكي لي:
لقد رحلوا.....
فهُم كانوا هنا، مرضى، بلا مأوى
كبارَ السِنً، لا أهلٌ ولا مَنْ يسمعُ الشكوى
لقد رحلوا ولم أرحَلْ
لأنّي قد رفضتُ الموتَ، بلْ قَرّرتُ أنْ أحيا
فعاقبني إلهُ الماءِ أن أقضي حياةً لا أرى أحَدا
لقد أغضبتُ آلْهتي فذُقتُ الهمَّ والنكَدا
وجئتُ إلى هنا وحدي لأقضي العُمْرَ مُنفرِدا
جلجامش في دار المسنين كعقاب له من الله سبحانه وتعالى الذي غضب عليه لأنه بحث عن الخلود ولم يرض بما قسمه له الله. هل هي دعوة من الشاعر للقبول بالواقع؟ هل هي تخويف من الطموح؟ لا أظن ذلك. أظن أنها إقرار بأن الخلود الله وحده ما دامت هذه الحياة ولن نحظى به إلا بعد البعث والحساب والعقاب.
القصيدة مليئة بالمتاهات التي تجعلنا نستنجد بكل طاقاتنا العقلية للخروج مهنا. وهي متاهات الشاعر القلق والخائف والمتوتر واليائس لأنه لا يملك الأجوبة القطعية على ما يقلقه.
الشاعر يرى في دار المسنين عقاباً. فهو يعارض هذه المؤسسات ويرفضها من منطلقات عقائدية وأخلاقية وموضوعية معرفية أيضاً. فهو بحكم مهنيته يعرف ما يدور في هذه المؤسسات وبحكم كونه شاعراً يرى أعمق وأبعد مما يراه الآخرون فهو يشعر مع كل من جاء به ذووه وتركوه وحيداً في مثل هذه الأطر. الشاعر يؤمن وبحق أن المسن مكانه حضن أسرته. ونفهم من فحوى القصيدة أنه يعتقد أن أسوأ أسرة أفضل من أرقي دار مسنين. هذه حقيقة لا لبس فيها. فالمسن الذي كد وتعب يجب أن يكافأ ولا يعاقب في آخر حياته. وهذا ما أوصى به ديننا السمح.
كل من عمل في دور المسنين يعرف أن هذه الأطر وخصوصاً بعد خصخصتها هي اطر ربحية هدفها جني الأرباح الطائلة على حساب راحة ورفاهية المسن. والأصعب من ذلك أن الكثير من المسنين المقيمين فيها يعاملون معاملة قاسية تصل إلى الضرب في الكثير من الأحيان. من تجربتي الشخصية أستطيع القول أنه لا يوجد مسن واحد يرضى ويرتاح للإقامة في هذه الأطر. فحضن العائلة بين الأبناء والأحفاد هو المكان المفضل لدى كل مسن.
كم يؤلمني أن أقول ومن تجربتي في العمل سنوات طويلة في هذا المجال أن المسنين في مجتمعنا العربي لا يحظون بما يستحقونه من احترام ورعاية. فكلما تقدموا في السن كلما زاد إهمالهم وكلما زاد الاستهتار بهم وبرغباتهم. وقد جاءت منحة التأمين الوطني المالية للعاجزين لتزيد الطين بلة إذ أصبحنا نشترط خدمتهم بتلقي الأجر. لا يمكن أن أنسى الكثير من الحالات التي كنت أرى فيها المسن في ظروف حياة لا تناسب الحيوان فأتوجه لذويه مرات عديدة دون جدوى. وعندما كنت أهددهم بان القانون يلزمني كعامل اجتماعي في مثل هذه الحالات أن أرتبه في دار المسنين كانوا يعارضون ذلك لأنهم لا يريدون التنازل عن مخصصات العجزة فأضطر للتوجه للمحكمة لاستصدار أمر ترتيب لذلك المسن في دار المسنين. وأذكر الكثير من المواقف التي تقشعر لها الأبدان عندما كان المسن المهمل يبكي أمامنا متوسلاً ألا نخرجه من بيته رغم كل الظروف القاسية التي يعيش فيها.
في مثل هذه المواقف يصاب المعالِج بحالة من الإحباط الشديد ويقع فريسة لتأنيب الضمير نتيجة الصراع الحاد بين المهني والعقائدي، بين ما يطلبه القانون وبين ما تحتمه العادات والتقاليد.
في هذه القصيدة المختصرة جداً لأسباب لا أعرفها والتي كان بإمكان الشاعر سرد المزيد من الحوارات أو توسيعها نلمس بوضوح شديد عالمين متوازيين: عالم الشاعر الذاتي أو الداخلي والعالم الخارجي المحيط به. بين هذين العالمين يتنقل الشاعر جاعلاً من الخاص عاماً ومن العام خاصاً. وهنا يتجلى صدق وروعة الأدب والتزامه.
- أجبْني إذن، هل وُهبْتَ الخلودْ؟
* نعم ْ. إنني الآن أحيا إلى أن يقومَ
الفناءُ، وحين يقومُ الفناءُ أكونُ
قضيتُ حياتي هنا
قضية الشاعر الخاصة هي البحث عن الخلود ولكنها قضية النفس البشرية والدليل على ذلك أن جلجامش الذي بحث عنه قبل آلاف السنين. وها هو يخبر الشاعر انه حظي به ولكن ليس إلى الأبد وإنما "إلى أن يقوم الفناء". وهنا تبدو المأساة الحقيقية بكل أبعادها. خلود في دار المسنين يراقب الداخلين والراحلين في قطار الموت الذي يمر بين الحين والآخر.
على لسان جلجامش ينتقد الشاعر بمرارة من رموا بوالديهم إلى هذه الدار وكانه يتساءل بمرارة شديدة: كيف نرمي في هذه الدور من قدم لنا زهرة شبابه وأفنى عمره في تربيتنا وإسعادنا؟ أيجوز أن نكافئه بهذا الشكل؟
أنا أَبٌ لخمسةٍ وأُمُّهمْ سادسُهمْ
أمضيتُ كُلَّ ما مضى لأجِلِهمْ
وحينما أصفّرتْ غصونُ الشَجَرةْ
وغادرتْني قُدْرةُ العطاءْ
ودَبَّ فيَّ الداءْ
صارَ وجودي نكِرةْ
وهكذا يا سيدي،
كُلُّ يُلاقي قَدَرهْ
في هذا المقطع تخرج القصيدة عن غنائيتها وتتحول إلى كلام بسيط ولكنه جارح كالسكاكين. ربما أراد الشاعر أن يقول لنا مهما زيينا وجملنا ذاتنا البشرية فإنها قبيحة بشعة وناكرة للجميل. ينبهنا إلى هذه الحقيقة علنا نكف عن ذلك لأن مصيرنا جميعاً لا يختلف. فالزعيم سيصل هذه المحطة والعميل الذي يراقب ذلك الزعيم ويتجسس عليه سيصل أيضاً وحتى الشاعر الصادق الملتزم الذي لم يتكسب ولم ينافق سيجد نفسه وحيداً فيها.
أرأيتَ إذنْ يا عالِم نَفْسِ الإنسانْ
كيفَ مصيرُ الزعماءِ إذا شاخوا
ومصيرُ الشرفاء إذا عمَّ الداءْ
أرأيتَ؟ فحتّى دارُ مُسِّنينا تُصبحُ
وكراً للعملاءْ.
فوضى في كل شيء تتجسد فيما تتناوله هذه القصيدة المعبرة. فوضى تجعلنا ضحايا نزواتنا متناسين مصيرنا الحتمي ومنشغلين عنه كقضية القضايا بأشياء سخيفة وتافهة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أننا مرضى نعاني من داء عام.

شكراً لواجِبكَ المُقدّس في الزمانِ وفي المكانْ
مَرّتْ عليكَ وجوهُ مختلفين في النُعمى وفي
العُمرْ المُهان
يا سيدي أيُّ المصيرين الأحبُّ، الموتُ في عُمْر الزهور
أم عيشةٌ أحياؤها موتى
تمرُ بها الحياةُ بلا هناءٍ أو سرورْ؟
الشاعر يستنجد بجلجامش ليقرر ما الأفضل: موت في عمر الزهور أم حياة طويلة تعيسة لا متعة فيها؟ وكأنه يلوم جلجامش في سعيه وبحثه عن نبتة الخلود. فالخلود المطلق غير ممكن لذلك السؤال هو أي حياة نعيش: حياة سعيدة أم حياة تعيسة؟ حياة ذات معنى أم حياة تافهة دون معنى؟ وبما أن الشاعر يتعامل مع مقولات كبرى كما يسميها الدكتور وليد العرفي كالموت والحياة والخلود فقد استنجد بجلجامش الذي هو نوح والذي عاش أكثر من ألف عام كصاحب أطول تجربة في مراقبة الفئات المختلفة من بني البشر.
النظرة الصوفية الفلسفية تغمر القصيدة. والحوار الذي يتخللها يجعل منها مأساة في قالب ملحمة تحكي مغامرات الشاعر في مواجهة الأسئلة الملحة والحادة التي تعكر صفو حياته. أسئلة لا تخصه وحده لكنه وحده قرر مواجهتها أو طرحها والبحث الشاق عن إجابات لها.
في هذه الدارِ مَنْ هاماتُهم نطحَتْ
غيماً فما أهرقوا دمعاً
ولا ذرفوا
يا عاشقَ الخُلْدِ، يا كَلكَامشُ،
انتحرت
قصيدتي، وهوى من نَخْلِها السَعفُ
أبكى عيوني مصيرُ الساكنينَ هنا
ويَسقُطِ الناسُ إنْ يسقط لهم شرَفُ
الشاعر يختتم هذه القصيدة بالبكاء الصريح والجلي على ساكني دار المسنين الذين هم كما يبدو ساكني الكرة الأرضية والشاعر واحد منهم. بكاء ذاتي على مصير حتمي جمعي يخص كل من خُلق. ما يبكي الشاعر هو هذا الخراب وهذه الفوضى التي تمكن بني البشر من إدراك أن مصيرهم هو دار المسنين مهما علا شأنهم ومهما عظمت مراكزهم ومواقعهم. فلو أدركوا ذلك قبل وصولهم لهذه الدار لسادت المحبة والعدل والتآخي.
خاتمة قوية ومعبرة تستنكر كل هذه الفوضى التي نعيشها والتي جعلتنا لا نحترم مسنينا متنكرين لعاداتنا وقيمنا وديننا التي جميعها تحض على احترام المسنين واحتضانهم.
***
حسين فاعور الساعدي


 

مقالات متعلقة