الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 23:01

طفرة جديدة تهدد مستقبل أطفالنا/ بقلم: د. سلام قدسي

د. سلام قدسي
نُشر: 05/02/21 13:58,  حُتلن: 14:46

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

 الطفرة التي اتحدث عنها هنا ليست صحية بل نفسية. طفرة تصيب أطفالنا في اعقاب استمرار الإغلاق وتعطل الدراسة ورياض الأطفال بسبب جائحة الكورونا وبقائهم في البيوت لفترة زمنية طويلة في مناخ وظروف تربوية غير اعتيادية.

الاختبار لكشف إذا ما كان طفلك يعاني من عوارض هذه الطفرة سهل:

امنع طفلك عن الشاشة لمدة عشر دقائق، المقصود شاشة التلفاز او التلفون أو أي شاشة أخرى اعتاد النظر إليها. ولاحظ سلوكه!

إذا بدأ بالحركة مرددًا اصواتًا غير مفهومة مناديًا عليك باستمرار طالبًا شيئًا بإلحاح كطعام أو شراب وتكرر طلبه باستفزاز. احمال أن طفلك يعاني من عوارض هذه الطفرة النفسية المستجدة.

هذه الطفرة تؤدي إلى ادمان الأطفال على الشاشات وإحداث خلل في الجهاز العصبي الداخلي، لتعرض الأطفال لكميات غير محدودة من المحفزات الضوئية المتسارعة التي تبث الى الدماغ عبر العين اشعارات بموجات تستنفر خلايا الجهاز العصبي الصغير والهش لديهم. ناهيك عن سلوكيات هيستيرية كنوبات من البكاء أو الضحك دون ان يجد الاهل لها تفسيرًا منطقيًا.

عندما يتوقف بث الشاشة، يخرج الطفل من حالة تركيزه، لكن جهازه العصبي يبقى مستنفرًا مترقبًا، ينتظر المزيد والجديد الذي عودته عليه الشاشة حتى لو بدا لنا المحتوى مكررًا. لكن لأغراض البحث فلن نزود الطفل بحاجته، وسنتركه يواجه الواقع الحقيقي المعاش خارج عالم الخيال المفترض الذي تزوده به الشاشة. يشعر الطفل في غياب الشاشة انه امام عالم أشبه ما يكون بفيلم تصوير بطيء: حركة الناس تبدو بطيئة واصواتهم ممطوطة. يحاول الطفل فهم ما يجري حوله كمن استيقظ للتو، فيزيغ ببصره ويطلب تكرار الجملة في حال خاطبناه. هكذا يصبح العالم من حوله غريبًا. ويطلب العودة من فوره الى العالم الافتراضي عبر أقرب شاشة متاحة. فيتوسل للأهل ويستجدي مستخدمًا شتى وسائل الضغط وما أكثرها عند أطفال اليوم. ولا يهدأ الا بتحقيق الهدف.

من ايجابيات هذه الطفرة، قدرة الأطفال على التركيز بمحتويات الشاشات وتعاملهم مع العالم المحيط بهم بذات الوقت. جيل هذه الطفرة قادر على توزيع محور تركيزه بين أكثر من مصدر ومثير خارجي. لكن المقلق ان الاهل أعطوا الشرعية لهذا الاستخدام المفرط، بحجة انه يسهل عليهم التواصل مع أطفالهم ويساعد على تهدئتهم. هكذا صارت الشاشات رفيقة الأطفال وملاذهم بغياب حياة اجتماعية منظمة في الروضة او المدرسة.

جيل اليوم يتعرض للشاشات منذ الولادة، حتى أطلق عليه اسم جيل الشاشات. فمثلا عندما تقصد الام عيادة صحة الطفل للتطعيم في جيل سنة او أقل، تقدم له شاشة هاتفها الخلوي اثناء الحقنة، بينما كانت في الماضي تحتضنه وتتودد إليه. وعند اصطحابه للحضانة تناوله في مقعده الخاص بالسيارة ذات هاتفها الذي اعتاد عليه حتى لا يبكي، بينما كان الأطفال في الماضي يستغلون هذه الأوقات لتأمل المحيط عبر زجاج السيارة.

نعود لاختبار منع الشاشات عن الأطفال، لنتعمق في بعض الظواهر النفسية السيكولوجية المحتملة: لعل أبرزها الشعور بالخوف من الوحدة في حال توقف البث. والخوف من الملاحقة او الطاردة وفقدان الأمان. يظن الطفل أنه مطارد وتتداخل شخصيات العالمين، فيبحث فورًا عن أهله ويتفحص إذا ما كانوا في دائرة سمعه وبصره، فيبحث عنهم متى غابوا ويتفقدهم كل حين بغض النظر عن مكان تواجدهم في البيت او المحيط، وإذا غادروا البيت قلق وتوتر. كما انهم صاروا يخافون من الأماكن المغلقة، ومن شخصيات وهمية مثل (زومبي) وغيرها من الشخصيات خرافية ابتدعها مصممو ألعابهم الالكترونية وبرامجهم على التلفاز. لا يفوتكم ان الواقعي والخيالي عند الأطفال متلازمان ومختلطان. يخشى الأطفال هجر او رحيل أحد الوالدين او حتى موته، في ظل الاخبار المتعاقبة عن جائحة الكورونا التي تبث يوميًا في البيوت. فهم عرضة لها حتى لو بدو انهم منشغلين في أمور أخرى. هم عبارة عن حاسة متطورة جدًا لاستيعاب واكتشاف كل ما هو حولهم. كذلك الامر الأحاديث الكبار التي تصل الى مسامعهم، تحتوي على ألفاظ ومرادفات الموت تتردد في دعوات الأم على أحد الاخوة او الزوج او الزوجة للتعبير عن الغضب او حتى على سبيل الدعابة، لكن الأطفال لا يميزون بين الواقع والمجاز في الكلام، فيترسخ خوفهم من الموت.

من علامات الطفرة ايضًا التبول اللاإرادي خصوصًا اثناء النوم، وهو مؤشر سلوكي تراجعي يدل على خوف الأطفال واضطراباتهم.

ويبقى السؤال كيف نتعامل مع أطفالنا لإخراجهم من هذه الطفرة المستجدة؟

أولا علينا الادراك ان هذا الامر حقيقية قائمة، وإنكاره سيدخل الاهل في دوائر ومتاهات قد تضر بالأطفال.

في هذه الفترة بالذات اطفالنا بأمس الحاجة لاحتضانهم وتفهمهم، لا لتعنيفهم. فضرب الأطفال بات شائعًا في هذه الأونة الحرجة. فعلى الرغم من الصعوبات التي يمر بها الوالدان وتراكم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وضيق صبرهم. لا يجوز تحويل الاطفال الى ضحايا عنف نفسي وكلامي وجسدي. هذا أمر خطير يجدر بنا اجتنابه والتنبيه لأبعاده النفسية الخطيرة على مستقبل الأطفال. فمهما كانت ظروف الاهل فالنتيجة واحدة وهي ضرر نفسي للأطفال في المدى البعيد.

ثانيا ضرورة وعي الاهل وتفهمهم لسلوكيات اطفالهم عند ابعادهم عن الشاشات والتي تبدو لهم مستفزة وفيها تحديات حقيقية لما ستفرزه من توترات، نتيجة سلوكيات مردها أنظمة دفاع نفسية يلجأ إليها الأطفال لجسر الفجوة الحاصلة بين العالمين الافتراضي والواقعي. تفهم الاهل لهذه الحقيقة يجعلهم أكثر انتباهًا في ردود أفعالهم تجاه أطفالهم. عندما يلح الطفل في النداء او الطلب فانه يحاول فقط لفت الانتباه وكل ما يرجوه هو كلمة تدل على أننا نراه ونسمعه وقريبون منه، بينما في الصد والضرب ترسيخ للفجوة وتعميق لها، وفيه دفع للعودة الى العالم الافتراضي الذي يكمن له خلف الشاشة ليوفر له البديل على حساب الاخلال بجهازه العصبي للمدى البعيد، والإدمان.

للمدى البعيد تأثير هذا الطفرة على تطور أطفالنا وخيمة، فهي ستدفعهم للعيش داخل عوالم افتراضية مغرية وجذابة يتم تطويرها على مدار الساعة من قبل شركات تكنولوجية تدر عليها أرباحًا طائلة جعلتهم اغنى اغنياء العالم. برامج تبث عبر الشبكة العنكبوتية ومن خلال أجهزة ذكية تتطور باستمرار. كل هذا سيعصف بمؤسسة الاسرة ويهدد دور الاهل وإضعاف تأثيرهم في تنشئة أبنائهم. تذكروا ان علاقة الإنسان بالمجتمع يتم تحديدها في مرحلة الطفولة، هناك تبنى قاعدة الثقة بالعالم من خلال اهلهم. في ظل هذه الطفرة أطفالنا يطورون للمدى البعيد صورة مهزوزة عن الأهل ستترجم لاحقًا لعقوق. احذر هنا من مصير محتمل قد يؤدي بشباب الغد الى ارتكاب جنح وممارسات غير قانونية وسلوكيات غير اجتماعية: كحمل السلاح غير المرخص أو استخدام المخدرات او الشذوذ الجنسي وغيرها، تعبيرًا عن الذات التي تم اهمالها او قمعها في مرحلة الطفولة، مع العلم ان للمربية والمعلم والمعلمة أدوار إصلاحية وفرصة جيدة لتغير مصير هؤلاء الأطفال في مراحل التعليم المختلفة إذا احتضنوا هؤلاء الأطفال واعطوهم الاهتمام الذي حرموا منه في البيوت.

خروجنا من الاغلاق وعودة الحياة الاجتماعية إلى الأطفال ستساهم في تقويم سلوكياتهم وتحررهم من المخاوف التي تطاردهم. لكن ما اخشاه ان يبقى أطفالنا رهن الشاشات وما ستفرزه من سلوكيات ستقرر مصائرهم لمدى الحياة.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com

مقالات متعلقة