الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 19:02

قذائف، نحاس وغُربة-حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعدي
نُشر: 24/02/21 12:09

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

هروب الأستاذ وإغلاق المدرسة كانت بالنسبة لي فرصة لأرافق أختي في رعاية الأغنام. وفي المرعى جمعت أنا وأختي كباقي أطفال القرية الطلقات الفارغة والرؤوس النحاسية للقنابل المنفجرة لنبيعها لتاجر النحاس الذي يزور القرية كل أسبوع ليشتري المواد النحاسية التي يجمعها الأولاد والأهالي من مخلفات المناورات التي كانت تجري في المنطقة. لسنوات عديدة كانت هذه المواد النحاسية مصدر معيشة لسكان القرية الفقراء خصوصا بعد ارتفاع سعر النحاس تلك الأيام. كانوا يبحثون عن الطلقات والقنابل المنفجرة ليجمعوا رؤوسها النحاسية التي يزن الواحد منها ما يقارب النصف كيلوغرام. وقد حدث أن تعامل بعضهم مع قنابل لم تنفجر محاولين استخراج تلك الرؤوس فانفجرت بهم فدفعوا الثمن حياتهم .

أذكر أن والدتي كادت أن تكون واحدة من تلك الضحايا لولا لطف الله ورحمته. ففي أحد الأيام الربيعية المشمسة وجدت قذيفة لم تنفجر ولها رأس نحاسي مغري فأحضرت الفأس وبدأت بالضرب بقوة على ذلك الرأس لفصله عن القذيفة. كنت أجلس بجوارها وأراقب ما تقوم به وقد هب لنجدتها ابن عمها الذي مر قرب المكان مع قطيعه ورأى ما تقوم به فأمسك بالفأس وبدأ بالضرب بقوة هو الآخر وأمي تنصحه بالضرب على المفصل بين الرأس النحاسي وجسم القنبلة. تركت أمي وابن عمها القذيفة بعد أن تعبا .
لم تمت أمي ولم أمُتْ في ذلك اليوم فواصلتُ رعاية الماشية مع أخواتي وكانت مناسبة لنا لابتكار الألعاب المختلفة من بينها الصعود على أشجار الخروب والتسلق حتى رؤوس الأغصان الجانبية والتزلج معها إلى الأرض. هذه اللعبة كانت تؤدي إلى تجريدنا لتلك الأغصان من أوراقها والى تجريدها لنا من ملابسنا.
تمنيت في داخلي أن تطول مدة إغلاق المدرسة، لكن والدي لم يهدأ له بال . ظل يحاول ويحاول لكنه فشل في الحصول على تصريح يمكن ذلك المعلم من العودة إلى المدرسة فذهب إلى مدير إحدى المدارس في القرية المجاورة واتفق معه على استيعاب أولاد قريتنا في تلك المدرسة. والد هذا المدير كان احد رجال تلك القرية الذين أعدمهم الجيش الإسرائيلي عام النكبة في مركز القرية. لذلك كان يكره الحكم العسكري ويكره رجالاته .
دخلت المدرسة الجديدة وأنا مشتت بين حبي لرعاية الماشية وتظاهري بحب المدرسة إرضاءً لرغبة والدي. كان عندي الكثير من الأسئلة التي لم اطرحها على أحد وإنما ظلت تجول في داخلي. لماذا نتعلم ؟ لماذا أغلقوا المدرسة ؟ لماذا نعيش بين القذائف وتحت زخات الرصاص؟ لماذا أمي هي التي تقوم بكل الأعمال الشاقة ؟ لماذا والدي يحب فرسه كثيرا ؟ ولماذا يغيب كثيرا عن البيت ؟ كان يحبني كثيرا. لا شك في ذلك فأنا ابنه الوحيد. لكنني لا أذكر أنه قبلني أو ضمني إلى حضنه. ألأنه رجل؟
لم يكن شارع بربط قريتنا بتلك القرية فاضطررنا للسير على الأقدام في الجبال والوديان بين الصخور والأشجار تحت المطر وفي حر الصيف .
كنت أصل المدرسة وقد أنهكني التعب وتلطخت ثيابي بالوحل في الشتاء وبالغبار في الصيف. أصل منهكا من التعب ليواجهني تعب أشد إيلاما وفظاعة وهو تعب الغربة. الغربة كالوحش تعض فتؤلم. ما أصعب تلك الأيام ليس لبعد المدرسة وصعوبة الطريق فقط وإنما للنظرة الفوقية لزملائنا الجدد.. فنحن بالنسبة لهم بدو. والبدوي هو إنسان متخلف وبدائي. لا أدري إن كانوا في نظراتهم يسخرون مني أو يشفقون علي. كنت أفضل أن يسخروا مني لأنني لا أرتاح للشفقة فهي تمسح ولا تبقي شيئا، والسخرية قد تثير وتجر إلى الرفض. كانوا ينظرون إلى ثيابي الملطخة بالوحل الأحمر، وكأنه لا يكفيني أنني اسمر البشرة. كانوا جميعهم ابيض مني وتراب قريتهم كان ابيض أيضاً مما زاد في إحراجي وغربتي. كنت في غربة شديدة وقاسية. كنت أحس برغبة شديدة في البكاء، في الصراخ، لكن حيائي منعني من ذلك . فتمنيت الموت. تمنيته لكن حب والدتي وتعلقها بي جعلني أشفق عليها فأجلت موتي. البكاء شيء عادي ، مسموح ، مفيد وقد يكون لذيذا . فلماذا لم ابكِ؟ لماذا أضعت تلك الفرصة لمواجهة الذات ، وغسلها بالدموع .؟ كنت أستطيع اصطناع أي شيء يسبب البكاء لطفل مثلي كأن ألقي بنفسي من فوق صخرة ، أو أن اخبط رأسي بالحائط من دون أن تسيل الدماء حتى لا يشفق علي احد أو أن أغلق عيني وابكي. لم يحدث ذلك وظل البكاء معلقا في الحلق ينتظر من يفجره. البكاء شيء غير عادي وغير ممكن ويجب ألا يحدث مهما حصل لأنه معلق وتسد انسيابه صخرة كبيرة وثقيلة في الحلق .
كل يوم كنا نقطع الجبال والوديان بين الأشواك والصخور إلى أن نصل مدرستنا الجديدة. الطريق الطويلة جعلتنا نتعرف على حجارة الجبل حجراً حجراً . سميناها بأسماء مختلفة، مضغناها مع الزوادة ومضغتنا في الخريف قبل الغروب، لها طعمنا ولنا طعمها، منها شربنا الماء في الأيام الربيعية عندما كان يشتد بنا العطش وترفض تلك البدوية المزاجية صاحبة البيت في منتصف الطريق إعطاءنا الماء بدعوى أن البئر لا تكفي لما تبقى من أشهر الصيف والخريف، خصوصا إذا تأخر الشتاء. مياه الصخور لذيذة جدا، أحيانا يكون في القاع بعض الديدان الصغيرة التي تجبرك على سحب طرف ثوبك واستعماله كمصفاة، لكنها تظل لذيذة جدا.
تلك البدوية المتشبثة بأرضها كانت وحيدة والديها بعد أن فر إخوتها جميعا إلى لبنان وهي فتاة قصيرة القامة وسمينة شعرها قصير متجعد، كثيرا ما كنا نلتقي بها في المرعى مع قطيعها ونحن في طرقنا إلى المدرسة فتطربنا بأغانيها ومواويلها الحزينة التي وفرت لي فرصة للبكاء الذي حرمت منه، لكنها كثيرا ما كانت تغضب فجأة وبدون سبب وتقوم بمهاجمتنا بالحجارة فنضطر للرد بالمثل. كانت تجيد رمي الحجارة ولا تخطيء الهدف. وتعود فجأة للغناء الحزين الّذي يدمي القلب. كانت هي أيضاً تنتظر كما يبدو.
صخور الجبل كانت تمثل لنا أحلاما صغيرة وجميلة. احدها كان سيارة واحدها كان مخبأ واحدها كان مقعدا وثيرا. كنا نعرفها ونتطاول عليها فتظل صامتة لا تعيرنا أي انتباه. تعلمنا منها الصمت عند الشدائد وحملناها في جيوبنا عندما اختلطت علينا الأمور وكأننا نعرف أننا سنفقدها يوما ما.
ذات يوم رحلنا عنها، ذات يوم دافعنا عنها حتى جفت حلوقنا وذات يوم عبدناها بعكس ما أمرنا الله. ذات يوم اختبأنا تحت احدها الذي كان بمثابة سقف لا يزيد سمكه عن سمك أسقف تلك الأيام ، التي كانت خالية من حجارة الطوب . وعندما بدأ القصف كان بيننا وبين الموت أمتار قليلة. عند القصف يختبئ الجميع ، لا يسأل أحد عن أحد. وبعد القصف يعود كل شيء إلى ما كان عليه. كانت الغريزة هي التي تقودنا وليس العقل. فالعقل تعطل بفعل الظروف غير الطبيعية التي سادت وسيطرت على كل ما حولنا. من حسن حظنا أن الغريزة هي التي قادتنا فالعقل يسأل، يتردد، يخاف، يبحث، يعطي بدائل ويطرح حلولا .
في اغلب الأحيان كنا نصل المدرسة متأخرين بعض الوقت وكانت تفوتنا متعة الانتظام في صفوف طويلة في ساحة المدرسة، ونفلت من مغبة التفتيش على الأظافر. أظافري كانت طويلة دائما. ربما كنت بحاجة لها ولم أنتبه. كان الأستاذ يسمح لنا بالدخول فنحن أبناء النكبة الثانية وربما الثالثة، لكن أكثر ما ضايقنا وأزعجنا هو الدخول على غرفة صف، للعبور منها إلى غرفة صفنا .
فعندما كانت غرفة صفنا في المدخل كنا نستطيع إخفاء أقدامنا المبللة بالوحل بواسطة التسلل والجلوس رأسا خلف المقعد، لكن في الحالات التي كانت أمام غرفة صفنا غرفه صف أخرى كنا نضطر للعبور أمام ثلاثين أو أربعين طالباً كلهم ينظرون إلى أحذيتنا المغمورة بالوحل والى سيقاننا المبللة بالماء بسبب المطر أو الندى فيسخرون منا أو يشفقون علينا. لا أدري .
لحظات قاسية ومخجلة. ما أصعبها! ألا يكفي أننا بدو؟ ألا يكفي أن لهجتنا تختلف؟ ولون وجوهنا يختلف وثيابنا تختلف وحقائبنا المصنوعة من القماش تختلف ، ألا يكفي كل ذلك؟ كيف يمكن أن يكون لنا.تراب ابيض مثل تراب هذه القرية التي جئنا إليها مكرهين مقهورين؟ لماذا جئنا الى هذه القرية؟ الم يكن من الأفضل لنا البقاء في بيوتنا المنثورة على الجبال؟ أليست رعاية الماشية أفضل؟ تلك اللحظات جعلت من العيش تحت الرصاص والقنابل جنة عدن .
التراب الأحمر هو التراب الوحيد الذي يحدد هويتك حال اللقاء الأول بينك وبينه وبعدها أينما ذهبت تظل أنت أنت ، وكيفما هربت تلاحقك الغربة حتى وأنت بين الأهل والأقارب. هل الغربة تأتي من التراب الأحمر؟ هذا ما اقتنعت به، لكنني أحب هذا التراب، أحب لونه وطعمه ورائحته.
لم نقاوم كثيراً. قبلنا الأمر الواقع بل ذهب احدنا إلى حد تلطيخ كل بنطلونه حتى خصره بهذا الوحل. كان يدخل الصف ونصفه الأسفل مغمور بالماء والوحل الأحمر وكأنه يقول للجميع بأعلى صوته وبكل ما أوتى من قوة : هذا أنا...افعلوا ما تشاءون. أغاظ هذا الأمر احد المدرسين، الذي لم تعجبه كما يبدو هذه الصرخة فرد بعنف شديد. كل صباح كان يوقف هذا الطالب على المقعد الأمامي وأمام كل الصف يقوم بجلده بشكل عنيف ومؤلم رغم البرد الشديد. كان أحدنا هذا يتلقى كل تلك الضربات الوحشية برباطه جأش ودون أن ينبس ببنت شفة وهو ما أثار جنون ذلك الأستاذ الذي حول هذا العقاب القاسي والمؤلم إلى عادة يومية واخذ يرفقها في بعض الأحيان من شدة غيظه بصرخات مثل: "من يطلب منك المجيء إلى هذه المدرسة؟" وظل احدنا هذا صامتا مما زاد من غربتنا وبكائنا الداخلي الشديد .
كنت أنا الابن الوحيد المدلل أواجه كل شيء وحيدا. لم يرافقني أحد، لم يحضنني أحد ولم أجد من أتكئ عليه. أنا الأفضل حالا من كل زملائي كنت محاصرا بغصة خنقتني وحولتني الى شيء يتحرك فقط ، فكيف هو الحال عند الآخرين الذين جاءوا من عائلات كثيرة الأولاد ولم يحظوا بما حظيت به من احتضان ودعم عاطفي؟
لم يكن أمامي إلا أن أكون الأول في صفي حتى أعوض كل هذا الذي أنا فيه. نافسني على هذا المكان ابن نائب مدير المدرسة الذي تفوقت عليه بكل المواضيع ما عدا موضوع الموسيقى لأنني كنت ارفض الإنشاد أمام الصف بسبب حيائي الشديد رغم أن صوتي كان أجمل بكثير من صوته.
حاول معلم النشيد كثيرا ليجعلني أنشد أمام الصف فرفضت.. قال لي إن للبدو أصوات جميلة وهو ما جعلني أزداد إصرارا على رفض الإنشاد فاضطر الأستاذ إلى إعطائي علامة متدنية . كنت أحب النشيد كثيرا، أطرب له، يجعلني احلق في السماء وأغيب عن هذه الدنيا. لكنني لا استطيع الإنشاد لأن في الحلق صخرة ذلك البكاء الذي لم يحصل .
ليت ذلك الأستاذ ألح علي أكثر، ليته أصر على معرفة السبب لعدم إنشادي. كنت سأصرح له بكل شيء، كنت سأحكي وأحكي إلى أن تنفجر تلك الصخرة العالقة في حلقي وتطلق شلال الدموع المحبوس وراءها .
ليته أصر. كنت سأسأله من أنا وماذا يريدون مني؟ كنت سأسأله أي لغة أصدق: ما أسمعه في البيت والقبيلة أم ما أسمعه في المدرسة ومن المعلمين؟ ما أسمعه من أمي وأخواتي وجدتي، أسمعه من صوت العرب ودمشق؟ ماذا أصدق : "عيد استقلال بلادي..." أم " يا طير طاير...يا رايح ع الديرة ...." ؟ كنت سأسأله لماذا كل هذه المتناقضات المتراكمة والكثيرة ؟
بعد المدرسة وفي أيام العطل المدرسية كانت رعاية الماشية هي وسيلة اللقاء بيننا نحن الصبية، نتركها ترعى ونجتمع في لعبة نختارها، حسب الموسم والموقع. أحيانا يسود بيننا الانسجام والألفة وأحيانا تشتعل الصراعات التي تنتهي دائما بالمصالحة. كل ذلك على أنغام الرشاشات ودوي المدافع خلفنا. فما تكاد الأمور تهدأ حتى ينتابنا وجع الفراق .
القصف كان شديدا فالأرض تهتز بشدة والهواء يلتف بشكل دائري. لا ندري من أين كانت تأتي القذائف. ربما من الناحية الشرقية من جسر الحمرا شرقي دير حنا. ولماذا يطلقونها من ذلك المكان الذي تستره عنا سلسلة من الجبال الشاهقة؟
كانت القذائف تأتي مزغردة أو مولولة. أحيانا تمر من فوقنا وأحيانا تنفجر قبل أن تصلنا. ومع الوقت صرنا نعرف بالغريزة المناطق المقصودة بالقصف بشكل دائم والمناطق التي يصلها القصف بشكل عشوائي. وصرنا نعرف أنواعا عديدة من القذائف: منها الاسطواني الشكل برأس نحاسي وكنا نفضل هذه القذائف لأننا نستفيد من رؤوسها، ومنها التي لا رأس لها، وهذه لا فائدة ولا جدوى منها. ومنها الكروي المتصل برأس كثير الأجنحة المصنوعة من مادة الألمنيوم.
القذيفة عندما تنفجر تترك وراءها شحوبا يخيّم عليه صمت رهيب فتصبح الشمس صفراء والأرض رمادية باهتة والهواء غابة من المسامير الحادة .
الصخور تتفتت تحت القذائف في كل المنطقة لكنها لم تنكسر. العصافير تفر جماعات في رحيل مأتمي حزين، لتعود وكأنها تبحث عن أفراخها. أما الثعالب والحيوانات البرية الأخرى فقد قطعت علاقتها بالمكان منذ زمن. لكنها كانت تعود أحيانا وفي أيام المطر، لتمارس عواءها الحزين وتذهب .كانت تعوي بشكل جماعي عدة دقائق لكن المكان يظل يردد ذلك العواء بشكل متواصل على شكل أصداء تشبه زعيق سيارات الإسعاف في أيامنا. هل كانت تؤدي واجباً أم هو البكاء الذي حرمت منه ؟ هل الحيوانات وبالذات الثعالب تبكي ؟ من ساعدها على ذلك؟ إنها تسبح الله في رأي أمي.
في المناطق المقصودة بالقصف الليل مليء بالأشباح فكل شيء يتحول إلى شيء مخيف. أما النهار فيكون خليطا من الموت والشحوب الأصفر الممزوج بالرمادي الذي يكلل الهضاب والوديان. هضاب وجبال مكللة بالأصفر الباهت. كل الأشجار في المنطقة أصابتها القذائف بشكل مباشر أو بواسطة الشظايا المتطايرة فكانت سيقانها تنزف وأغصانها تتطاير لتملأ المكان. في ساعات الصباح الباكر يختلط الندى بنزيف السيقان المجروحة فيسهل البكاء وتسيل دموع الأشجار بحرية تامة .
كنا ندخل المناطق المقصودة بالقصف ونحن نعرف أننا نلامس الموت لحظة بلحظة ونخرج منها ونحن لا نصدق أننا لم نمت. أحيانا كنا نهرب من الموت في اللحظة الأخيرة، وكثيرا ما كان الموت يهرب منا بعد فوات أوان الهروب منه .
في مواجهة الموت تصبح الأشياء بيضاء ناصعة، تمر بسرعة، وتصبح الحياة
جميلة وحلوة وكأنك تراها لأول مرة. حتى الأشياء المؤلمة والموجعة تصير جميلة .
استمرت مناورات الجيش وازدادت ضراوة، وتطورت الأساليب والوسائل.
صارت الدبابات تصل حتى البيوت مطلقة نيرانها في كل اتجاه. كان أبناء القبيلة يختبئون بين الصخور حتى يحموا أنفسهم من الرصاص الطائش وعندما ينتهي هجوم الدبابات يعودون لممارسة حياتهم العادية وكأن شيئا لم يكن. الغريزة تقودهم وتوجههم بعد أن تعطلت العقول .
الجيش كان يأتي عن طريق قرية عرابة ويخيم إما قربها في مكان السوق الشعبي اليوم أو يستمر إلى آخر الشارع الذي شُقَّ وعُبّد زمن الانتداب البريطاني على شكل زاوية قائمة وبطول ثلاثة كيلومترات شمال قرية عرابة لينتهي بدوار كبير عند وادي سيار في أراضي سخنين . على هذا الدوار يقيم الجيش معسكره ومنه تبدأ الفرق العسكرية انتشارها وتدريباتها .
الدبابات تنتشر في كل اتجاه في الحقول المزروعة غير آبهة بما تسببه من أضرار للمزروعات. الدبابات وهي تغوص في حقول القمح والشعير تشبه كثيرا السفن التي تبحر في عباب البحر. الفلاحون يغادرون حقولهم إما حال قدوم الجيش وبنائه لخيام المعسكر أو بعد بدء المناورات وتعرضهم للرصاص والقذائف. في هذه الحقول وضع الجيش الكثير من البراميل الفارغة كأهداف يتدرب على إصابتها. هذه البراميل بعد فترة وجيزة كانت تتحول إلى قطع صغيرة بسبب الرصاص والقذائف التي تصيبها.

مقالات متعلقة