الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 17:01

حصار في الكانيون/ قصة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر
نُشر: 01/06/21 14:17,  حُتلن: 14:18

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

عند باب الكانيون - المجمع التجاري أراهما يقتربان مني، تُفلت ابنتهما يدَها من يد والدِها، تجري نحوي، أتلقفها مثل طائر حبيب، احتضنها كم أنا أحبها. الصغيرة كبرت، احتضنها بين يدي اقترب منها، يتوجه إليّ والدُها، أبي ادخل معنا إلى المجمع، يشير إليها في حضني إنها تحبك، منذ فترة لم تزرنا، لهذا هي تسأل عنك دائما، تريد أن تراك، ادخل معنا ريثما تشبع منك فيما بعد تنصرف، أقول لابني أنا مشغول يا ولدي، لديّ الكثير من الكتابات التي تنتظر، سأعود إلى معتزلي، هناك أنا يجب أن أكون، سأزوركم فيما بعد، أما الآن لا استطيع، القصة لا تنتظر وعلي أن اكتبها قبل أن تطير شوختها من راسي.

تُداعب الصغيرة في حضني شاربي، جدي أنا احبك، أريد أن آتي معك. الصغيرة الشقية تحل المشكلة، لكن إلى أين تأتي معي؟ أنا في معتزلي هناك، حيث الغرفة الموحشة، الكلمات المهوّمة في الفضاء، الجنون الهارب، الفضاء الموحش اللامتناهي، ماذا افعل، يقرأ ابني الحيرة في عيني، أبي خذها مشوارًا قصيرًا، واعدها بعده، هي ستملّ بسرعة، لكن كيف أعيدها يا ولدي؟ يشير ابني إلى فتحة في سياج ضُرب حول المجمّع حتى لا يتمكن احد من الهرب، في حال وجود " غرض مشكوك في أمره" أو عملية تفجيرية، من هذه الفتحة يمكنك إدخالها والدخول معها أيضا.

يبتسم ابني وزوجته. يمضيان، تتعلّق الصغيرةُ برقبتي، أين أنت يا جدي؟ اشتقت إليك، ابتسم لها، أنا هنا، أفكر في أن اشرح لها عن معتزلي، أن أقول لها إن جدك بات شيخًا كبيرًا، يجري وراء أوهامه في الابداع والكتابة، أتراجع في اللحظة الأخيرة، تلح الصغيرة طالبة إجابة، لا أجد أمامي من مفر سوى أن أقدم لها ما أرادت، سأكتب قصة لك. تبتسم الصغيرة، تكتب قصة لي، اروها لي.. اروها الآن، أحب أن استمع إلى القصص، لا أحب القصص التي يحكيها لي أبي وأمي، هم يرددونها دائما، أريد أن استمع إلى قصة جديدة منك. أبي قال لي انك تكتب القصص، احكِ لي قصة.

أرسل نظرة إليها، كم أحب هذه الشقية الصغيرة، تركتها قبل فترة وانصرفت إلى معتزلي، وها أنذا أعود بعد فترة لتملأ عالمي بالكلام الطلي الجميل، لم أكن أتصور أن يفلت لسانُها بكل هذا الكلام بهذه السرعة، والدها، ابني، لم ينطق بكلمة إلا بعد أن بات اكبر منها الآن بسنة أو سنتين، ما زلت أتذكّر كيف نطق بكلمته الأولى، كان ذلك حين وضعت فمي قريبا من أذنه وهمست فيها قائلًا، كم احبك، فما كان منه إلا أن احتضنني، وأنا احبّك يا أبي. من يومها زال حاجز الخجل وانطلق لسانُه يقول أحلى الكلام وكثره طلاوة، أما هذه الشقية ابنته الصغيرة، فها هي تطلب مني أن احكي لها قصة، لا خوف ولا وجل، ما افتح هذا الجيل.

انطلقُ مبتعدًا عن المجمع التجاري، تسألني الصغيرة في حضني، إلى أين أنا متوجه؟ تمسك بياقتي، أريد أن أعود، أريد أمي وأبي. افهم أن المشهد انتهى، الآن لا بد لي من أن أعيدها.
أبواب المجمّع مغلقة، تصدّني عنها، يعترضني حارس، أنت لا تستطيع أن تدخل. اسأله ماذا حصل، يرسل نظرة حاقدة نحوي، اقرأ فيها كلامًا اسودَ، اشعر به يقول لي تفعلون فعلتكم وتتساءلون؟.

انزل الصغيرة على الأرض، لعلّه يراها، نحن أيضا يوجد لدينا صغار، نخشى عليهم من نسمة الهواء، يبرم بوزه أكثر، يبدو انه لم يفهم الرسالة.
ابتعد عنه، انظر إلى عدد من الرجال يحملون صغارهم في أحضانهم، ربما كانوا مثلي. أتذكر الفتحة التي تحدّث عنها ابني، الفتحة في السياج، ارفع الصغيرة، أدليها بصعوبة منها، ما أن تلامس قدما الصغيرة الأرض حتى تطير منطلقة إلى الداخل كأنما هي فهمت الرسالة، بدون أن تركض قد لا تدخل وقد لا ترى والديها. ما أن أحاول أن ادخل وراءها، حتى يقترب مني مجند وقف هناك حاملًا سلاحه، عُد وإلا.. افهم الرسالة، بسرعة افهمها، لست بحاجة إلى تكراره لها، نحن نفهم عليهم بسرعة، أما هم لا يفهمون علينا، سبعون عاما ونيّف مضت ونحن نحاول أن نوصل إليهم الرسالة، وهم لا يسمعون، أما هم لا يحتاجون إلا إلى نظرة تقطر سمًا، حتى نفهم عليهم، نفهم رسالتهم الملأى حقدًا.
ارتد إلى الوراء، حالة من العجز تستولي علي، ما الذي حصل، اشعر بحاجة، إلى فهم ما حصل، اركن راسي إلى جدار قريب من هناك.. من المجمع، أحاول أن استعيد ما حصل. شريط سينمائي ذو صور متلاحقة يمر من قبالة عيني، أتوصّل في النهاية إلى النتيجة المُرعبة، ما أدراني أن ابني وزوجته في الداخل؟ ومن أين لي أن اعرف أن الصغيرة وصلت إليهما؟ ألا يمكن أن تتوه هناك وان يأتي من يقضي على الابتسامة الجميلة الحالمة برواية القصص الجديدة؟ ما أتعسني إذا حصل هذا. اشعر بنشاف في فمي، هل نحن على أبواب فترة قاسية جديدة؟ هل أنا أعيش الآن لحظة ستضحي فاصلة في تاريخي الشخصي؟ هل سأؤرخ بها لنفسي قائلًا قبل حادثة المجمع وبعدها؟
حالة من الخدر تجتاح أطرافي، ابني في خطر زوجته في خطر محبوبتي الصغيرة التي كبرت في خطر، أية لحظة هذه؟ ولماذا قُيض لي أن أعيش في هذه البلاد المنكوبة بالسخط. لماذا لم أولد في بلاد أخرى بعيدة.. تتقافز الطيور على أفنانها، وتطلق أغاريدها؟ لماذا ولدتُ هنا في هذه البلاد، حيث تصمت اللحظات، وتتوقف الطيور عن التغريد، وتكفهر السماء؟ وماذا سأقول لابني وزوجته، إذا ما خرجا، الآن بعد ساعة أو ساعتين، بعد يوم أو يومين.. ثلاثة؟ بل ماذا سأقول لنفسي؟ سأقول إنني كنت غبيًا وتصرفت برعونة كاتب يريد أن يكتب قصة؟ ما أتفه ما سأقوله، أمام دمعة والد ووالدة وجد ما زال يحلم بان يصبح كاتبا يشار إليه بالبنان.

استرخي استرخي استرخي، حالة من الاسترخاء تستولي علي، أهي لحظة النهاية تقترب؟ ربّما، آه لو لم أمر من هنا.. من قرب هذا المجمع اللعين، آه لو بقيت هناك في معتزلي البدوي المشرد، بعيدًا عن هذا المعترك المدني المتأورب.
اللحظات تمر ثقيلة عسيرة. تمر كأنما هي لا تريد أن تمر وأنا وحيد أمام كتل الاسمنت والبطون، لا أرى إلا حزني الصحراوي يطل على هناك ترافقه ارض رملية لا حدود لتعاستها، كم أود لو أن اللحظة ما كانت، لو أنني بقيت هناك في عالمي الموحش اركض وراء قصة هاربة اكتبها، الآن اكتملت دائرة الألم، الآن اشعر أنني بت نخلةً وحية في صحراء العرب.

ماذا بإمكاني أن افعل والمجمع مغلق وعلى أبوابه جنود لا تعرف نظـّاراتـُهم الرحمة؟ ماذا بإمكاني وأنا أواجه لحظة مصيرية قد افقد فيها سعفي وشمسي؟ مستقبلي وأيامي القادمات؟ اترك الأمور تجري كما هي وكما يشاء لها الجنود والحراس؟ نعم لأتركها، ثم من أنا الآن في هذه اللحظة خاصة، حتى أملي إرادتي على كل هذا الفضاء، بجنوده المدججين بالسلاح وحراسه؟ لاستسلم إلى اللحظة ولأدع الوقت يقدم الإجابة، أنا لا استطيع أن أقدم أية إجابة، ما كتبته من قصص خـُلـّب ٍ الآن، لن ينفعني إلا في أمر واحد، هو كيف أتعامل مع لحظة قاسية لا تقل فيها فظاظة نظرة الجندي قدرة عن التوماهوك.

نعم لأرخي راسي إلى كتلة اسمنت أخرى، ما أن افعل.. ما أن أرخي راسي، حتى تطل صورة صغيرتي، من سمائي، جديّ؟ لماذا تركتني وحيدة هنا بين أعداء لا يرحمون؟ أإلى هذا الحد أغرتك القصة فجريت وراءها. تهمي من عيني دمعة، لا اعرف ماذا يمكنني أن أقول لها. لا اعرف سوى أن انتظر فمن يعرف.. فقد يأتيني غدا بالأخبار من لم أزود.

أغمض عيني لا أريد أن أرى هكذا عالمًا، ليعش هذا العالم جحيمه، وليدع لي فسحة من الحلم، افتح عيني، لا أرى سوى الجنود والحراس، أحاول أن اهتف بهم، أن أقول لهم دعوني ادخل إلى المجمع، دعوني أكون مع أحبائي هناك، إلا أن لساني يخونني، أغمض عيني، افتحهما .. كم هو مرعب هذا المكان.
 

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان alarab@alarab.com


مقالات متعلقة