الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 22:02

محمود شقير؛ فلسطين، ثدي الحياة و حليب الذكريات/ بقلم: حسن المصلوحي

حسن المصلوحي
نُشر: 24/02/22 15:43

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

كنت أظن أن شاعريّة الوصف في القدس والمرأة قد استنفدت عذوبتها مع درويش الذي قال عن القدس أنها امرأة من حليب البلابل، حتى قرأت هاته القصص القصيرة جدا للأديب محمود شقير التي عنونها ب "حليب الضحى". قرأتها البارحة في ليلة ماطرة اصطفت فيها قطرات الجَوْد على نافذة غرفتي مصرة أنها لن تكمل رحلتها نحو الأرض، إلا بالاحتفاء بهاته اللحظة التي لا كاللحظات... لقد وجدتني أمارس نوعا جديدا من القراءة، و كأنه الرقص على نغم الكلمات والمعاني، وغوص في ما وراء الحروف، هنالك هنالك حيث تكمن الحقيقة الخجولة... لا يبوح شقير بمكنوناته مجانا، إنها كتابة مرهِقة، متمنِّعة عن العشاق الذين يكبح الخمول جماح خيالهم.

ليس خفيا أن الأديب محمود شقير متفرد في هذا المنجز، مخاتل، محتال على أصناف الأدب وأجناسه؛ فالعمل صُنّف على أنه قصص قصيرة جدا، لكني قرأته شعرا وومضات بلجاء تصطاد من الحياة ما يجب الظفر به، و هو أيضا رواية بل روايات متكاملة، تدعوك إلى التقاط الكلمات ورتق الصور المفرقة في بهاء وجمال لتكوين صورة كبرى، بل صور تتنوع بحسب مخيال القارئ.

أكاد أجزم بأنه حقا نوع جديد من صنوف الأدب، وإذا سمح لي أديبنا أن أسميه "رواية القصص الشاعرية القصيرة"، إنها رواية تجمعت فصولها عبر ومضات قصصية والتقاطات باذخة تفسح للخيال المجال ليسمو بعيدا بعيدا... وفي القدس وضواحيها يحلو السرد والقصيد، وتحلو الذكريات ولحظات الحياة اللذيذة رغم الهجر واليتم والعقم والسجن... عبر شخوص عديدة وعلى لسانهم قصّت القدس نفسها على وقع خطوات الأطفال الصغيرة في الأزقة والحارات. في أحاديث النساء والشيوخ والحيطان التي تشهد بأن التاريخ لنا لا لغيرنا.

أرى أن هذا العمل يمتلك أبوابا عديدة لقراءته، أبواب ليس من السهل فتحها، أبواب بل ومستويات عديدة للقارئ، فالرواية هي حكاية أزواج يتفاعلون مع الحياة بلحظات الفرح فيها ولحظات الألم، وهي أيضا مشاعر الحب، الحقيقي منه والزائف، وهي أيضا القدس التي ترضع كل ضحى أمة جائعة حليب الكرامة! والرواية أيضا تعرية لواقع إنسانية أصبحت تتأبط الغدر والقهر تحت رداء من سراب، مفضوحة ظهرت عورات هذا الزمن الديوث داخل الرواية.

و بعين الشاعر الذي لا زالت أبيات عيون الشعر العربي تلازمه وجدت في الرواية "ليلى"، وتذكرت ليلى مثلما كان يتذكرها مجنونها والليالي الخوالي، وتذكرت ما قاله فيها: "على مثل ليلى يقتل المرء نفسه"، وبدا أن ليلى العاقر هي قدسنا التي لم تعد تلد الحياة، هي قدسنا التي تنكرت لها بطنها فأصبحت تلد الخيبات، وحين تبنت ليلى طفلة هدأ روعي وتذكرت أنه إن عازك بطنك اجعل بطون الناس بطنك وأرحامهم رحمك. تدور الأحداث ويحلو السرد في ليلى وحواليها التي يدعوها الكاتب لئلا تخشى الكمال لأنها لن تطاوله، وأن بعض السعادة، كل السعادة تكمن في النقصان. ويمضي بنا في هودج الكلمات العذبة المرهفة الرنانة؛ ليحكي لنا عن تفاصيل الحب والبحر والرواية و مشاعر اللؤم والخوف والقلق والدلال لليلى، الذي لا يليق إلا بها. يناجي طفلة تنتظر الحلوى فتحصل على قلب هائم وعبق وحفنة ذكريات، وقلب ليلى نبراس الوجود في ديجور الحياة القاسية ومشوار العنت الذي نسير فيه جميعا، فأين غابت ليلى ليغيب هذا الضوء الذي لطالما آنس وحدتنا؟ وفي الرواية أيضا استدعاء للتفاصيل حيث يكمن المعنى الذي يستدعي فك الرموز؛ يحضر الهديل والصباح والبن وأرصفة المدينة وتحضر سيدة المقام "ليلى" المقدسية الأصيلة، التي تفصح عن نفسها لنحفل نحن القراء بالحديث إليها، تخبرنا أنها تورطت في الحب ورغم ذلك أحبت واستمرت على الدرب رغم السأم والضجر ولحظات الوهن... وفي برية القدس نكتشف أن الحلم يجب أن يصبح حقيقة، وأن الحب ربما يكون درعا أمام العدو وسيفا يزرع في خاصرة المحتل... وعبر مريم المسيحية المقدسية ومحمد يعيد الكاتب كتابة تاريخ المكان والزمان وفضح اللقيط القادم من شتات الأرض؛ ليرسم لنفسه صورة من رصاص، وهنا كان لا بد أن يحضر درويش برمزيته الخالدة، ويتردد نشيد الحياة بأن عليها ما يستحق الحياة، ونتوقف أيضا عند تيمة الصمود والعيش من أجل قضية والوفاء والبهجة والخريف والحب الذي يصمد وحده أمام قسمات الزمن ونكبات الأيام، إنه ذلك السمو فوق قوانين الطبيعة وحتمية الوجود.

صُور الكاتب كانت مدهشة، جياشة بالمشاعر، مراوغة وعجيبة؛ فتراه يتنقل بين لحظة ألم تتعرى فيها الأشجار خانعة لرياح الخريف، ويعود بك إلى قطة تنام إلى جوار المدفئة، فتتساءل ما الذي قصد بذلك؟ فتغيب في تأويلات وتأويلات وقد تنتهي باللاشيء، لا فكرة، لا نتيجة ولكن بلذة شاعرية تستقر في سويداء القلب، وإذا حُزتَ نصيبا من القدرة على التأويل وتطويع المشاهد، قد تقول في نفسك (كما قلت أنا) ربما في ساق ليلى الذي أبى أن يزعج راحة قطة ما لا تحويه قلوب الملايين، ويدعوك عبر المشهدية إلى الحب الذي لا طريق للحياة إلا طريقه...

ماذا أقول؟

لا أعتقد أن ورقة نقدية كهاته كافية لقراءة هذا المنجز المتفرد، بل إن كل أقصوصة داخل هاته الرواية تحتاج لدراسة خاصة ومعمقة، فيها ما هو نفسي وما هو اجتماعي وتاريخي... فيها الموسيقى والشاعرية وذكاء في اللعب بالكلمات لا يخفى على القارئ.

وعبر رمزية الثدي يمكن أن نحلل الصورة، فالثدي هو الملاذ الأول أمام الوجع، الثدي هو الأمّ وهو الزوجة وهو الطفلة، الثدي هو الحياة التي يجب أن نتمسك بها حتى لا ننسحب أمام زبانية الموت، فلا نلوم امرأة ترقب ثديها أمام المرآة منتظرة أن يجود حليبا يطفئ عطش الروح التي تتحرق شوقا لفلذة الكبد، فالأطفال هم القضية وهم النصر... فوصف الكاتب القدس بأنها انعتاق وبأنها البراءة وهي الغضب أيضا حين يستلزم الأمر ذلك، القدس هي أهلها هي كل شيء هي اليتم والكمد والمجد والصمود... لتنتهي الرواية بيد تمسك بأختها على ضوء الأمل؛ ليبقى كتاب الحياة مفتوحا تشهد سطوره بأنه ما زال عليه متسع لكتابة حياة جديدة.

عمل سردي يمتح من معين خيال شاعري خصب يجعل القراءة متعة حقيقية، عمل يحتفي بالحياة و يزرع الأمل في النفوس بأن ثدي العروبة يوما ما سيحلب الحياة ليسقيها عزة و شموخا لأفواه أعياها الجوع وهامات كسرها الخنوع.

فهنيئا لنا بك أديبنا "محمود شقير" حارسا للحب و الحياة في زمن الحرب والموت. 

مقالات متعلقة