الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 17:02

من هو رهين الجسد - مقال نقد - بقلم: مصطفى عبدالفتاح

مصطفى عبدالفتاح
نُشر: 17/02/19 12:35,  حُتلن: 12:36

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

قبل ان اقرا الرواية، قلًّبتُ صفحاتها كثيرا ، فتَّشت عن إشارة تشدُّني اليها، تدعوني لقراءتها، كل شيء فيها حتى الان يقول لي أنك مقبل على قراءة رواية درامية، مشاهد محزنة، مقاطع بائسة، قد تحبطك أكثر مما انت عليه، لا اريد ان أُدخل الحزن والأسى الى قلبي الان. الا توحي لي صورة الغلاف ان هناك قصة لشخص معاق سيزيدني هما، يهرب من أناس يصفقون له، يدير ظهره لنار تشتعل في غابة، ثم الا يشد العنوان أي قارئ ويقول له أنك امام روايةٍ الجسدُ فيه مكبَّل وعاجز، ثم السنا جميعا رهائن لأجسادنا؟، اذن مالي ولها!، سأبحث عن شيء يشدني أكثر.
تعود الى نفسك بعد لحظات، تعود الى عتبة النص الأولى، عنوان الرواية لتسال أي رواية هذه التي يكون فيها الجسد رهينة؟ رهينة من؟ ولماذا رهينة؟ من الجسد؟ ثم كيف يفصل بينهما؟ اليس الجسد جسده!، فكيف يكون هو رهينة لجسده؟ من الذي كتبها؟ ولماذا اختار لها هذا العنوان بالذات؟
تتيقظ الذاكرة فجأة على كلمة "رهين" ، فتغوص في اعماق الادب ليأخذك الى رهين اخر قرأتَ له وعنه احببته وعشت ادبه، اليس هذا تناص من رهين المحبسين، ايقلد الكاتب من رهن نفسه للبيت لا يخرج منه وهو مرهون للعمى، فاصبح رهين المحبسين، كما اطلق على نفسه، ويقال أيضا رهن نفسه وحياته للأدب، فنظم أجمل الاشعار، ام هو أي كاتبنا متأثر به وبنصوصه لدرجة ان يتأثر باللقب، ولكن رهين المحبسين مفهومة واضحة لا عمق فيها هي مجرد وصف لشيء ظاهر، اما هنا رهين الجسد فتأخذ معنى وبعدا أعمق انها تغوص في أعماق النفس البشرية، وتترك الجسد مجرد سجن، لم يبق لنا الا ان نبحث عن خبايا الكتاب والكاتب، لا شك ان هناك سر يشدنا، يشد القارئ، لا يستطيع ان يقاوم فيه قوة حب الاستطلاع، قوة معرفة ما تخباه له هذه الرواية، انها اقوى من ان يقاومها.
تحاول ان تستكشف سر الرواية من صفحاتها الأولى بعد الاهداء والشكر لتجد نفسك وجها لوجه امام مفاجئة من العيار الثقيل حكمة لابي العلاء المعري، تقرأها وتحاول فهم مكنوناتها وعلاقتها بالرواية التي بين يديك، انها تتحدث عن سر الخلق فهل نحن امام رواية فلسفية، من المؤكد انها ستغوص في أعماق النفس البشرية، وقد كنت للتو تفكر انه سيحدثك عن جسد مرهون، ثم لماذا أبو العلاء المعري؟ لم أجد امامي الا ان اضع علامة سؤال تحت الاسم وابدا بتقليب الصفحات استبق الاحداث لأفحص ان كان تفكيري بمكانه لأجد نفسي امام اقتباسات لطه حسين، لهيلين كيلر، لفرانكلين روزفيلت، لستيفين هوكينغ، والقاسم المشترك بينهم جميعا معروف، وهذا لوحده يشدك أكثر الى عمق الرواية الى عالمها، فتدخل اليها وانت بشوق جارف لمعرفة مكنوناتها.
أسلوب الرواية سهل بسيط، بل جمال الرواية ببساطة اسلوبها، وصدق تعابيرها، وكثافة معانيها، تتحدث في بدايتها عن اسرة عادية بسيطة فلاحية، ليس بها أي شيء مميز عن باقي الاسر في مجتمعنا الفلسطيني، تقرا وتقرا لتجد نفسك كالغواص في لجج البحر يبدا من الشاطئ ويدخل رويدا رويدا الى أعماق المياه، الى هناك حيث الدرر والمرجان حيث المناظر الخلابة في الأعماق، فيشدك يسحرك، يحرك فيك جميع الحواس، يحرك العقل قبل القلب، ويحرك الضمير قبل ان يحرك العقل والقلب، وكلما تقدمت مترا كلما زادت شهيتك للمزيد الى اين تريد ان تأخذنا في قصتك يا فادي؟
بعد ان يستعرض الكاتب عائلته فردا فردا وكأنه يمهد لنا الطريق او يعرفنا على ساحة الاحداث التي ستجري بها الرواية، يبدا بالحديث في "اخر العنقود" عن نفسه بل يكاد يلخص كل ما يريد ان يقوله لنا في هذه الصفحة يقول " ندخل الحياة كمن يدخل الكازينو، يعطينا الديلر، الموزع، الأوراق وحسبها علينا ان نتدبر اللعبة حسب قدراتنا وذكائنا، اوراقي كانت ضعيفة وحسبها خططت مسار حياتي في الحاضر والمستقبل هدفي ليس ربح ما يتواجد على طاولة القمار بل عدم خسارة ما املك بين يدي". ص 35. اذن هو صراع مع الحياة، صراع من اجل البقاء. ويستطرد في طرح صورة الوضع في قصة حكم القاضي.
يعرف فادي ما يريد، فقد حزم امره، وقر قراره، يعرف الى اين هو ذاهب، انه يعرض تجربه، ويقدم لنا صورة حقيقية واقعية من الحياة، ربما وبالتأكيد قد يكون هو نفسه بطلها قد عاشها كما يصورها، في الوقت الذي يقول هو بنفسه ما الذي يطلبه وما الذي يريده. "
اما نحن فنبقى فاغري الافواه، ننظر الى أنفسنا في المرآة لنرى صورتنا الحقيقية بدون رتوش، صورة واضحة نقية عن ذاتنا عن عجزنا، عن سخافاتنا، عن ضياعنا، وأخيرا عن قدراتنا، إذا نظرت في الأعماق سترى أي طاقة واي قدرة عظيمة يمكن ان يمتلكها الانسان يمكن ان يثقف ويربي ويعود نفسه عليها، انها صورة الانسان بكل قدراته وبكل تجلياته بكل حسناته وبكل مساوئه، بكل قيمه واخلاقه ومبادئه.
لن اتحدث عن إعاقة الكاتب نزولا عند رغبته الا في السياق، "أكره تضخيم موضوع اعاقتي كما أكره تصغير قيمتي في المجتمع لنفس السبب، ارفض اعتباري بطلا ان لم اقم بعمل يستحق هذا اللقب وامقت من يتجاهل وجودي بسبب اعاقتي." ص 37. وهذا ان دل على شيء انما يدل على شجاعة واستقامة ونزاهة الكاتب، ورغبته الاكيدة في وضع الأمور في حقها وبعدها الواقعي والحقيقي.
الكاتب او مراد بطل الرواية، يلخص حالته أي حالة الإعاقة بدون تأتأة بجملة قصيرة مركبة ولكنها مليئة بالمعاني والصور والأفكار يقول "جسدي لم يعط مجالا للقلب والعقل لتغيير النتيجة المحسومة سلفا، عقلي لا يملك ساقين ولكنه يمشي، قلبي بلا ساقين ولكنه يجري. لجسدي ساقان ولا يخطو حتى خطوة واحدة. فرض على جسدي حظر التجول" ص: 39. وهذا يكفي لاترك للقارئ ان يكتشف بنفسه كل الرواية.
حالة مراد او اعاقته تدخلنا بدون استئذان وتدخل الكاتب في اعقد القضايا الاجتماعية على الاطلاق وهي قضية العنف والتي ذاق مجتمعنا الامرين جراء تفشيها، وهي تنم عن جهل وتخلف وعدم مسؤولية للفرد اتجاه مجتمعه، وقلة الرحمة والإنسانية الصادقة والايمان العميق، هي التي توصلنا الى مجتمع عنيف، وقد وصف مراد الوضع بدقة وعمق وفهم لا يمكن وصفه بكلمات فهو يقول على لسان الوالدة عندما ولد " جاء مراد مستعجلا الى حياة مليئة بالحرمان والنقص ، لو كان يعرف كم سيكون الواقع الذي سيعيشه ظالما مع المعاقين لاختار ان يبقى داخل رحمي الدافئ." ص 52، اما هو فيتطرق للموضوع والعلاقات الاجتماعية مع كافة شرائح المجتمع والمضايقات اللانهائية له حتى استطاع ان ينتصر عليها ويدير لها ظهره فيقول "وجدت عرقلات المجتمع عانيت كافة ألوان الانتقاد الجسدي والاضطهاد الروحاني والاستبداد النفساني" ص 82.
رغم كل الاشواك وكل العقبات التي تأخذنا اليها الرواية يصل بنا الكاتب الى قصة حب بريئة جميلة حقيقية واقعية يصفها بأدق التفاصيل يصف مشاعره وصفا رائعا رغم نهايتها المحتومة ولكنها من أجمل القصص والاحداث التي قراتها في الرواية وحتى بشكل عام.
وفي خطوة جريئة جدا يدخلنا الكاتب في موضوع علاقته مع الخالق ليطرح أسئلة عميقة حقيقية واعية، رحلة شك حقيقية وتساؤلات منطقية ويقرر هو بنفسه ان رحلة الشك توصل دائما الى اليقين ولندعه هو يطرح الأسئلة بكلماته " يقال أيضا ان المصائب التي تنزل على الانسان هي اختبار ليمتحن الله صبره، حقا؟ متى سأستلم النتائج؟ وان حصلت على علامة كاملة ما هي مكافاتي؟ دخلت الدنيا مباشرة الى اختبار، لم اعرف أنى داخل اختبار، هذا ليس عدلا، لم اعرف ما مادة الامتحان اين هي؟ لم ادرسها لم احفظها، لو اعطاني الفرصة لأراجع المادة ربما نجحت وتفوقت." حاولت مع الله كل الطرق، توجهت الى قلبه عبر صلوات متكررة نابعة من قلب برئ وصادق اتوسل اليه متشفعا برحمته التي تكلمت عنها الكتب المقدسة. وبصوت مفعم بالرجاء وعيون مثقلة بالدموع قلت له أنى أودع ثقتي بعطفه ورحمته واومن بعدله، ولكنه لم ينصفني ولم يشفع. حاولت المساومة معه بوعود ان أكون ابنا بارا تلميذا متفوقا مواطنا شريفا انسانا كريما يساعد الفقراء والمساكين، لكنه لشروطي لم يخضع. حاولت التهديد والابتزاز بان اخرج عن ديني وأصبح ملحدا كافرا واكرس ما تبقى من حياتي الملعونة لزرع الشك في قلوب المؤمنين والاتقياء ولكنه من تهديداتي لم يفز." ص 91.
بعد ان قرر مراد في بداية الرواية ص 43 ان " الانتصارات الصغيرة هي التي تصنع الفرق الكبير بين شخصية مهزومة وبين أخرى ذات ثقة عظيمة بالنفس." ص 43. خلص الى نتيجة أخرى صفحة 233 تقول " حان الوقت للسيطرة على القدر، لن اترك له مجالا ليقرر أي شيء يتعلق بي، لا اثق به، خيب ظني مرارا وتكرارا، كأنه ترك الجميع وكرس وقته لتعذيبي انا شخصيا، كأنه يثار مني ويستمتع بكل لذة في ثأره.
يمكننا ان نلخص بدأت الرواية بمحكمة تحكم على روح المتهم مراد سعيد شحادة بالسجن المؤبد مع الاعمال الشاقة، وتنتهي بمحكمة أخرى حكمت على روح المتهم مراد سعيد شحادة بالإفراج. ليكون حرا طليق ليحلق أينما يشاء وكيفما يشاء. نتمنى له السعادة والصحة، نتمنى له المزيد من الابداع فقد اتحفنا برواية جميلة.

مقالات متعلقة