الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 29 / نوفمبر 19:02

قصتي مع الإنتحار/ بقلم: الشيخ محمد سليمان

محمد سليمان
نُشر: 20/09/19 09:49,  حُتلن: 15:14

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

منذ عدة أسابيع التقيت بأحد الإخوة من الملتزمين دينياً من الذين أحسبهم على خير ، وأسرّ لي قائلاً : يا شيخ أنا أفكر جدياً بالإنتحار ، ولا أخفيك بأني حاولت الإقدام على ذلك عدة مرات خلال الأعوام المنصرمة ، وأن هذه الفكرة تراودني منذ الصغر وفي شبابي وها أنا كهل كبير يطاردني الموت حيثما ولّيتُ وجهي ، لكني ولسبب ما لا أزال على قيد الحياة ، فقلت له : يا أخي ألست تصلي ؟ قال : بلى ، قلتُ : أولستَ مؤمناً بالله تبارك وتعالى ؟ قال : بلى ، قلتُ : أما تخشى أن تموت كافراً ؟ قال : بلى ، قلتُ أما تخشى من عذاب الاخرة ؟ قال : بلى ....

وبعد موعظة رقيقة رقراقة تناولت فيها الترغيب في رحمة الله وفي عفوه وكرمه وأنه لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ثم الترهيب من غضبه وسخطه وعذاب جهنم والخلود فيها  عياذاً بالله ، وأن قاتل النفس مرتكب لكبيرة تستحق العذاب والخلود في النار . وبعد كل ما أسلفت رد علي قائلاً : إن كل ما ذكرت من موت ومن عذاب بعد الموت وحساب في القبر ثم النار ثم .... كل هذه الأسباب تدفعني الى الانتحار ، فحكايتي بدأت حين كنت يافعاً
ففي يوم من الأيام وصلنا خبر موت قريب لنا , فاصطحبني أبي لحضور الجنازة ، وعندها شدني الفضول لمشاهدة مراسم الغسل والتكفين والدفن ، وبدأت أراقب أدق التفاصيل ، فلا أنسى وجهه الشاحب ، وملمسه البارد وكفنه الأبيض ، وتلك الرائحة النافذة التي غمرت المكان الضيق ، ثم نظرت الى وجوه الحاضرين فهزني البكاء والصراخ وشعرت بأن الدنيا ضاقت علي بما رحبت ، وخرجنا به محمولاً على الأكتاف إلى أن وصلنا إلى المقبرة هنالك رأيت شواهد القبور وبدأت أحصيها وأقرأ أسماء أصحابها ، ولم أكد أعدها حتى أخرجوه من النعش وأنزلوه بروية وهدوء إلى القبر ، ثم أهالوا عليه التراب وتعاونوا على إتمام الدفن على أكمل وجه ، وبعدها جاء الملقن كي يلقنه الشهادتين ، وبلحن أقرب إلى الترانيم استرسل صاحبنا يعلمه بأنه قد مات وبأنه في تلكم اللحظة سيتنزل عليه ملكان فيقعدانه ويسألانه ، وعليه أن يجيببهما بكيت وكيت ، وختم التلقين بالدعاء للميت ثم بفاتحة الكتاب .
علقت هذه الصورة في ذهني (يقول صاحبي) وصارت جزءاً راتباً من حياتي اليومية ، هل سأموت ؟ هل سأنزل  إلى حفرة مظلمة ؟ لن أقوى على التنفس ، لن أقدر على الهرب إن صحوت من موتي ، نعم هذا صحيح فلقد سمعت أن هنالك الكثير ممن عادوا بعد الموت ، والكثير ممن عادوا إلى الحياة تحت التراب وماتوا وهم أحياء إذ لا منفذ للخروج من تحت هذا الردم الهائل من التراب ، ولنفترض بأني مت ، ما يدريني بأنني سأعرف الجواب على سؤال الملكين ؟
هل سيثبتني الله في هذه اللحظة ؟ لا أعتقد أني أستحق ذلك ! إذن فمصيري إلى مطرقة من حديد ، أضرب فيها على رأسي
فأصرخ صرخة تسمعها كل المخلوقات عدا الثقلين ، وبعدها سيأتيني الشجاع الأقرع .... أنتهى كلامه .

في معرض الحديث عن الإنتحار أو محاولة الإقدام عليه أو حتى التفكير فيه قدمت بين يدي القارئ نموذجاً من آلاف النماذج
التي يتعرض لها الأطباء النفسيين ومن يليهم من المختصين في هذا الحقل والكثير من المرشدين والمشايخ والدعاة والمصلحين
بشكل عام .
مسببات الإنتحار :
الإضطرابات النفسية والعقلية ، الإكتئاب ، الأمراض المزمنة ، المخدرات ،إدمان القمار ، التعرض للعنف المنزلي في مرحلة الطفولة
، الاستغلال الجنسي من قبل أفراد في العائلة ، التعرض للمشكال والصدمات الشديدة في العائلة ، التفكك الأسري النابع من الطلاق ،
فقدان عزيز أو حبيب ، كذلك يتفشى الإنتحار في المجموعات المنعزلة اجتماعياً ، أو لدى المساجين في زنازين انفرادية لفترات طويلة
وبين الفئات المستضعفة والفقيرة والمهمشة اجتماعياً التي تعاني من التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين ، كذلك الذين يتعرضون للعنف الشديد في العمل
كالجنود في الخطوط الأمامية بالمعارك مثلاً، مع وجود نسبة كبيرة لذوي العائلات المعروفة بحالات انتحار سابقة ، أضف إلى ذلك الجانب الوراثي
فإن تعرض شخص لحالات انتحار سابقة يجعل منه أكثر ألفة مع الموت ، ومن أشهر حالات الانتحار هي الانتحار بالتقليد ، حيث تجد مثلاً أنه في خلال
فترة زمنية معينة يُقدم مجموعة من الطلاب بالمرحلة الثانوية على الانتحار بنفس الطريقة ، أو أن ترتفع المعدلات بعد انتحار ممثل شهير مثل روبين ويليامز .

معدلات الإنتحار :
يعتبر الإنتحار السبب العاشر عالمياً للوفاة بحيث أن شخصاً واحداً يموت كل 40 ثانية منتحراً بحسب إحصائيات
منظمة الصحة العالمية .

نظرة المنتحر إلى نفسه :
الدونية والعجز والنقص وجلد الذات وتحقيرها واتهامها المتكرر ، هذه السمات العامة لشخصية المنتحر ، فلسبب ما كالإعاقة أو الفقر
أو البطالة أو الفشل أو التشرد أو التقدم بالعمر والحاجة لرعاية الأخرين ، ينظر المنتحر إلى نفسه على أنه عالة على المجتمع ، فيكره
نفسه ويحقرها ويعتبر موته أفضل من حياته بالنسبة للآخرين .

نظرتنا للمنتحر :
كثير من الناس يعتبر صاحب فكرة الإنتحار أو من حاول أو أقدم عليه بالفعل ، شخصاً ضعيف الإيمان أنانياً لا يفكر
بمن يهتمون لشأنه جباناً يبحث عن مهرب من مصاعب الحياة وأعبائها ومن المسؤوليات الملقاة على عاتقه كتربية الأولاد
والإنفاق عليهم أو الإلتزام بتسديد مستحقات وديون متراكمة ، ومنهم من يعتبره مستهتراً بحياته ومتهوراً .

المنتحر لا يود أن يموت :
إن الإكتئاب المزمن والانعزال عن المجتمع والشعور الدائم بالدونية والحاجة إلى جلد الذات لفترات زمنية طويلة يخلق نظرةً
سوداوية ويطور أفكاراً إنتحارية وبالتالي يولد حالة من التناغم والألفة مع الألم والعذاب ويكتسب مقاومة للخوف من الموت
فيمسي المرء منسجماً مع الموت فيطور الدافع للانتحار مع امكانية وقف التنفيذ ، فمثلاً : الأشخاص الذين يعانون من فقدان الشهية
العصابي (Anorexia Nervosa) بحيث يقوم المريض بتجويع نفسه وممارسة الرياضة بصورة مفرطة مما يسبب
بمعاناة شديدة ، نجد أن أغلب المصابين بهذا المرض قد ماتوا منتحرين .
إن ما سبق ذكره من عوامل قد تؤدي إلى ما يمكن تسميته بالقفزة النوعية لحالة الانسجام مع فكرة الموت وتطوير
الية مكتسبة لمقاومة الخوف الغريزي من الموت مع امكانية التحول عن هذه الفكرة لأسباب بسيطة ، حيث أن كثيراً من أولئك قد
تراجعوا عن فعلتهم لمجرد أن تدخل أحدهم وقدم المساعدة وهذا ما يتعارض مع الأفكار السائدة حول المنتحر بأنه يريد أن يموت , والصحيح
أنه يريد التخلص من الحزن والألم ، فلو كان يريد الموت لمجرد الموت لما تفاعل الكثير مع محاولات إنقاذهم .

هل المنتحر مسؤول شرعاً وقانوناً عن أفعاله :
الإضطراب الإكتئابي الحاد أو الكبير ، إضطراب ثنائي القطب ، إضطراب ما بعد الصدمة ، إنفصام الشخصية ، إصابات الدماغ الحادة ،
الوسواس القهري ، إنخفاض في مستويات التغذية العصبية المستمدة من الدماغ ومن قشرة الفص الجبهي ، إنخفاض معدلات السيروتنين
والدوبامين في النواقل العصبية للدماغ .... كل هذه العوامل تصنف كأمراض حقيقية تؤثر على الوعي والإدراك والقدرة على التفكير
المنطقي والسليم للأفراد ، مما يشكل حالة من عدم قدرة الشخص السيطرة على دوافعه وبالتالي أفعاله ، لذلك لا يجوز للعاقل بأن يضع
كل هذه الفئات في سلة واحدة ، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره ، ولكي نحكم على المعين كان لزماً علينا فهم حالته بكل حيثياتها ،
ولأنه من المحال فعل ذلك يتوجب التأني في إصدار التقييمات أو الأحكام في مثل هذه الحالات ، ومن هذا المنطلق نجد أن كثيراً من
المجتمعات والدول لا تعتبر الإنتحار جريمة كأستراليا على سبيل المثال ، وهنالك فيما سبق تقنين لما سمي بالموت الرحيم في بعض
الدول الأوروبية ، وأنا هنا لست بصدد تبيان الحكم الشرعي أو القانوني بقدر ما أحاول شرح وجهة نظري حول الحالة العقلية والنفسية
للمنتحر .

آليات التعامل مع الراغبين في الإنتحار :
إن فكرة الإنتحار بحد ذاتها مرعبة ومستهجنة ومرفوضة من كافة المجتمعات السوية العاقلة ، والنظرة إلى المنتحر فيها الكثير من الإنتقاص
من صورته وسمعته ، بل نجد أن كثيراً ممن حاولوا الانتحار أو صرحوا بنيتهم قد قوبلوا بالرفض والنبذ والتهميش ، وهذا السلوك السلبي للمجتمع
تجاه هذه الفئة يفاقم من معاناتهم ، فالعكس هو الصحيح ، فإذا تعامل المجتمع بالقدر الكافي من الوعي والمسؤولية تجاه هذه الفئة ، بحيث يتم
إحتوائهم ودعمهم بكل السبل والطرق الفردية أو المجتمعية أو المؤسساتية ، واعتبارهم فئة من المرضى المستحقين للعلاج والدعم ، والأهم
من ذلك كله هو أن تتم معالجتهم بالطرق العلمية الصحيحة بعيداً عن الشعوذة والدجل والهرطقة ، فأنا شاهد على عشرات الحالات التي
كانت تستدعي تدخلاً دوائياً بل وعلاجاً سريرياً قد عولجت بالدجل والشعوذة واستخراج الجن حتى وصل بعضها لوفاة المريض ، وإسراء غريب
ليست عنا ببعيدة ، وحتى لا يتصيدن أحدهم بالماء العكر ويدعي بأني أرفض العلاج بالقرآن أو الرقية الشرعية فأقول : إن الرقية الشرعية
والعلاج بالقرآن الكريم تزكية للنفوس وعلاج لشبهاتها وشهواتها وغرائزها ، وعلاجاً سلوكياً معرفياً وتقويماً لانحرافات البشر ، وهذا ينسحب
على كثير من المشاكل النفسية والعصابية والتي تحتاج إلى رياضة الذهن وتحفيزه على الخير والحب والصدقة والعطاء ، ولترويض النفس
بامتناعها عن الاستغراق في ملذات الحياة والتعفف عن الترف والكماليات ، فكل هذا عندي محمود ، لكن لا علاقة له البتتة ببعض الأمراض
العقلية الآنف ذكرها والتي تحتاج إلى تعاطي الأدوية والمهدئات .
وعودة إلى القصة التي افتتحت بها المقال فأقول : إن مثل هذا الشخص حينما تطارده فكرة الإنتحار سيقع حتماً بين متناقضات كثير منها
حقيقة كونه ملتزماً بالصلاة ومتديناً مؤمنا بالله تبارك وتعالى وبين هذه الأفكار الهدامة التي تطارده في كل لحظة ، فهو وغيره الكثيرون
من الذين يحتاجون إلى تقييم المختصين لا يدري أو لا يدرون بأنهم قد يكونوا في حالة خروج عن السيطرة ، وهو مصطلح يستخدمه
أهل الإختصاص في وصف حالة من الخوف الشديد أو القلق أو الإكتئاب الذي يسيطر على عقل المريض ويستحوذ على ذهنه ،
أي أن إيمانه بالله تبارك وتعالى قد لا يؤتي النتيجة المرجوة في حال عدم الاستقرار النفسي والعقلي ، بل لا بد من أن يكون المرء في
حالة صفاء واستقرار فكري وعقلي كي يستطيع أن يتذوق حلاوة الإيمان .

في الختام أسعد بتعليقاتكم وآرآئكم وتفاعلكم مع الموضوع .

مقالات متعلقة